شبوة والاستعمار البريطاني في ذاكرة الشعر الشعبي

شبوة والاستعمار البريطاني في ذاكرة الشعر الشعبي

 

    أ.د.علي صالح الخلاقي

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية

        جامعة عدن

ملخص البحث:

الشعر الشعبي في بلادنا، يعتبر مصدرًا مهماً من مصادر التاريخ الحديث التي قد لا نجدها في مصادر أخرى، خاصة خلال المراحل التي سبقت الاستقلال الوطني 1967، ولذلك يمكننا القول أن الشعر الشعبي لعب دور الموثق التاريخي نظراً لغياب التدوين والتوثيق الكتابي في تلك الفترة في كثير من المناطق البعيدة عن عدن، كما هو الحال في شبوة وغيرها. وموضوع هذه الورقة البحثية، كما هو واضح من العنوان، هو شبوة والاستعمار البريطاني في ذاكرة الشعر الشعبي. والمقصود تلك الكيانات السياسية السابقة التي نشأت على أرض محافظة شبوة، وهي: إمارة بيحان، وسلطنة العوالق العليا في نصاب، ومشيخة العوالق في الصعيد، وسلطنة الواحدي. ولذلك فأن الحديث هنا سيكون عن شعراء تلك المكونات التي قامت على أرض محافظة شبوة الحالية، بما في ذلك العوالق السفلى التي اُلحقت إداريا بمحافظة أبين.

وقد اعتمد الباحث المنهج الوصفي في وصف الأحداث التي جرت، وكذا المنهج التحليلي والتاريخي في دراسة نماذج الأشعار، التي عكست مواقف شعراء مناطق محافظة شبوة تجاه الاستعمار البريطاني، سواء المواقف المعارضة والمقاومة، أو المؤيدة أو المحايدة، تبعاً لموقف الشعراء والمزاج الشعبي السائد حينها. لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن الشعر الرافض والمقاوم له الغلبة وعلو الكعب في المكانة والأهمية في مجمل الأشعار ذات الصلة بالاستعمار البريطاني، حيث مثل عاملاً مهماً لاستنهاض الهمم وإيقاظ الوعي التحرري لرفض ومقاومة الاحتلال. وهو ما سنبينه باستشهادات شعرية كافية، حيث اعتمدنا على مصادر ومراجع ودواوين شعرية متعددة أثرت الموضوع وجعلته يشمل خارطة مناطق شبوة تقريباً .

المبحث الأول: علاقة شبوة بالاستعمار البريطاني:

يتناول المبحث الأول بدايات صلات بريطانيا بمناطق شبوة وعقد أولى المعاهدات مع السلاطين والأمراء والمشايخ والتي بموجبها استطاعت بريطانيا أن تسيطر على المنطقة وتمارس الوصاية على الحكام المحليين، وأصبحت أراضي المحميات مسرحاً للتنقيب عن الثروات والآثار وبترحيب وقبول من الحكام المحليين. فهذا السلطان محسن الواحدي يرحب بأحد الانجليز ممن كانوا ينهبون الآثار الحميرية أثناء زيارتهم للمحميات، يقول:

ويقصد بدولة حمد بن هادي: سلطنة آل أحمد بن هادي الواحدي. أما الذي يملأ الفجوج فهي الآثار الحميرية التي انفتحت شهية الكونت لها ولا يحب شيئاً سواها في رحلته تلك.

كما تعرض لمواقف الشعراء إزاء المواقف السلبية من القبائل التي دخلت بريطانيا مناطقهم دون مقاومة تذكر، فعند دخول بريطانيا منطقة العوالق وخليفة انتقد الشاعر أحمد بن محمد بن سعد الباراسي قبائل معن وهم الفرع الأكبر في العوالق العليا لسماحهم لبريطانيا باحتلال بلدهم، يقول:

كما انتقد الشاعر علي محسن السليماني، أحد مشايخ العوالق وكانت له صولات وجولات في مقاومة بريطانيا ببندقيته  نوع (بلجيك)، انتقد تردد الشيخ الصريمة في المقاومة ضد الانجليز حينما توجه إليه بهذا الزامل: 

المبحث الثاني: صدى الانتفاضات والمقاومة الشعبية في الشعر الشعبي.

في المبحث الثاني وهو الأهم تتحدث الورقة عن الانتفاضات والمقاومة الشعبية في مختلف مناطق شبوة حيث توسع نطاق الرفض الشعبي للوجود الاستعماري وتحول إلى انتفاضات مسلحة أقضت مضاجع المستعمر ومثلت أرضيّة خصبة بالنّسبة للشعراء الشعبيين استقوا منها موضوعاتهم وعبروا عن مواقفهم، بل وأسهموا في تأجيجها، ويمكننا من خلال أشعارهم تتبّع جميع مراحل النضال والمقاومة حيث أرخوا لمقاومة ربيز وبيحان ومصعبين والعوالق وغيرها، وهو ما يتعرض له هذا المبحث باستفاضة مع الاستشهادات الشعرية.

ومن ذلك قول الشاعر أحمد ذروان الحارثي أنه لولا قصف الطائرات لما وضع المقاومون أي اعتبار لقوات الاحتلال البرية ولواجهها الأطفال (صبيان الفلاح) في الميدان:

وكان لمقاومة قبائل ربيز الأبية حضورها القوي في ذاكرة الشعر الشعبي، مثلما كان لها أثرها وصداها الكبيرين في مسيرة النضال والتحرير والاستقلال، فقد تميزت باستمرارها لفترة طويلة، منذ بداتها عام 1952م حتى تم طرد القوات البريطانية نهائيا من وادي حطيب عام 1961م، حيث ظل المقاومون صامدين بأسلحتهم البسيطة، ولكن بإرادتهم القوية، أمام جبروت القوات البريطانية، التي افرطت في استخدام القوة والقصف الجوي لمناطق ربيز في وادي حطيب فدمرت حصونهم ولم تسلم البشر ولا الحيوانات من نيران تلك القذائف التي تمطرها الطائرات البريطانية. وقد رافقت أصوات الشعراء وقصائدهم الوطنية تلك الانتفاضة التي قادها الشيخ علي بن معور الربيزي ضد الوجود البريطاني بالعديد من القصائد العابقة بروح التضحية والكفاح من أجل حرية الوطن واستقلاله، ورغم عدم تكافؤ القوة إلا أن الثوار تمكنوا من اسقاط عدد من الطائرات أثناء قصفها للمناطق بأسلحتهم الشخصية، وحينها  ابتهجت الأنفس وقال شاعر شعبي من أبناء ربيز متهكماً:

وحتى في يوم زيارة الملكة اليزابت إلى عدن في 27 ابريل 1954 تعمد سلاح الجو البريطاني قصف منطقة حطيب في كور العوالق وقتلت خلال القصف امرأة عجوز، وقال الشاعر بن قدرية العبودي متوعداً بالثأر لهذه الشهيدة:

وكان لمنطقة البيضاء وقبائلها الشجاعة دور لا ينسى في مقاومة الانجليز وفي تقديم الدعم والمساندة لثوار الجنوب واحتضان من تعرض للتشريد منهم طوال مراحل النضال. وقد لجأ إليها الثوار من المناطق المجاورة في شبوة وأبين ويافع، ومنهم البطل الثائر الشيخ علي بن معور الربيزي وابنه سالم عقب إحدى المعارك الشرسة مع الانجليز التي استخدمت فيها بريطانيا كعادتها طيرانها المقاتل.  وقال الشيخ علي معور الربيزي الزامل التالي مخاطباً الرويشان نائب البيضاء:

ويستعرض الباحث الكثير من الأشعار التي رافقت تلك الانتفاضة أو تحدثت عنها أو خلّدت استشهاد قائدها الشيخ علي سالم معور الربيزي، فقد رافقت أصوات الشعراء وقصائدهم الوطنية تلك الانتفاضة ضد الوجود البريطاني بالعديد من القصائد العابقة بروح التضحية والكفاح من أجل حرية الوطن واستقلاله.ورغم استشهاد قائد المقاومة لم تخُر أو تضعف معنوية المقاومين، وهو ما عبر  عنه الشاعر سالم رويس بعد استشهاد قائدها معور، يقول:

والمقصود أن قوات الاستعمار البريطاني لن تهنأ أو تعيش بسلام  بعد استشهاد الشيخ البطل علي معور، وكان نجله سالم علي قد واصل المقاومة. ورغم عدم تكافؤ القوة ومواجهة المقاتلين للطائرات البريطانية بأسلحتهم التقليدية إلا أنهم تمكنوا من اسقاط عدد من الطائرات أثناء قصفها للمناطق بأسلحتهم الشخصية، وحينها  ابتهجت الأنفس وقال شاعر شعبي من أبناء ربيز متهكماً:

وتتبع الباحث بقية الانتفاضات وحركات المقاومة في مناطق شبوة مثل  تمرد آل سليمان بقيادة آل عيدروس ضد بريطانيا عام 1955م، وحركة آل أبوبكر بن فريد في العوالق (1965-1960م).

والتي واجهتها بريطانيا وأخمدتها بعد انقطاع الدعم الذي كانت تحصل عليه بتواطؤ من القاضي محمد عبدالله الشامي حاكم البيضاء ومستشار الإمام الذي اتفق مع الانجليز بوقف الدعم لحركات المقاومة في الجنوب، وأرغم سلاح الجو البريطاني آل أبوبكر بن فريد وجماعتهم النزوح إلى البيضاء. مثلهم مثل من سبقهم من آل ربيز وغيرهم.

المبحث الثالث: المواقف  من اتحاد الإمارات والثورة المسلحة

اختلفت المواقف وتباينت من قيام اتحاد إمارات الجنوب العربي عام 1959م الذي تبنت قيامه الإدارة البريطانية في عدن، تبعاً للمواقف المتباينة من الاستعمار، فقد  قوبل الاتحاد بتأييد ومباركة من بعض الشعراء، على رأسهم ناجي المصعبي ومعارضة ومعاداة من آخرين كابن لزنم والكدادي ورويس وآخرين. ويتتبع الباحث تلك المواقف في مختلف المصادر والمراجع مع إيراد نماذج من أشعارهم. فالشاعر ناصر أحمد بن لزنم يرى أن هذا الاتحاد صنيعة بريطانيا التي يرمز إليها بـ"العجوز" وأنهم لا يزالون  "تحت طربوشها،أو قبعتها" أي تحت أمرتها، يقول:

ويتعرض الباحث للكثير من الأشعار الوطنية المؤيدة للثورة المسلحة التي انطلقت من ردفان. ومنها على سبيل المثال، وكمسك ختام لهذا الملخص، تلك الأبيات الرائعة من قصيدة الشاعر ناصر أحمد بن لزنم التي خلّدت بطولة الثائرة (دعرة) التي قاومت الاستعمار جنباً إلى جنب مع رفاقها المناضلين، حيث يصفها بـ(طُهش الطهاش) وأنه لم يعجبه في الدنيا مثلها ويتمنى أن يراها، يقول:

ختاماً:

يقدم الباحث في النهاية خلاصة موجزة يجمل فيها دور الشعر الشعبي في الموقف من الاحتلال البريطاني ومواقف أبرز الشعراء مع نماذج استدلالية من أشعارهم التي تتبعها الباحث من مختلف المصادر والمراجع. ويكاد هذا البحث الأول من نوعه الذي يتعرض لهذا الجانب بشمولية وبقدر كافٍ من الدراسة والتحليل، ويمكن توسيعه مستقبلاً وإصداره في كتاب توثيقي لجزء من تاريخنا الوطني.


[1] - سيجر وماكنتوش: من الضباط الانجليز.

التعليقات (0)