الأندلس في ذاكرة التاريخ (7)
- إعداد الدكتور سليمان عباس البياضي
- باحث في التاريخ والحضارة
- عضو اتحاد المؤرخين العرب
- عضو إتحاد المؤرخين الدولي
- عضو الجمعية المصرية التاريخية
- كاتب وروائي وإعلامي
- محاضر في جامعة العريش
فتح قرطبة:
أضحى الطريق مفتوحًا أمام طارق بن زياد لِلزحف إلى قُرطُبة، غير أنَّهُ عدل عن خطَّته وقرَّر التوجُّه نحو طُليطلة عاصمة القوط بِسبب ما استجدَّ فيها من أحداث، حيثُ برز التنافُس بين الجماعتين المُتنافرتين: جماعة لُذريق وجماعة آل غيطشة، ذلك أنَّ الهيئات الحاكمة بدأت تُعيد تنظيم صُفوفها لِلتصدي لِلمُسلمين بعد أن تناهت إلى أسماعها الشائعات بِأنَّ لُذريق لم يُقتل، وفي الوقت نفسه، راح أنصار آل غيطشة يعقدون الاجتماعات بِدورهم في طُليطلة، ويتشاورون فيما بينهم لِإعلان أحدهم ملكًا مكان لُذريق المهزوم، وبذل أخيل جُهدًا كبيرًا في مُحاولةٍ لِإقناع مجلس المدينة بالاعتراف به ملكًا وسط الذُعر الذي ساد الجميع عقب الهزيمة.
لِذا كان على طارق بن زياد أن يزحف بسُرعة إلى عاصمة القوط قبل أن يتمكَّن أي طرف من الطرفين المُتنازعين من السيطرة عليها، ممَّا قد يُصعِّب على المُسلمين مُواجهة الموقف، والمعروف أنَّ آل غيطشة ظلُّوا واهمين بِأنَّ المُسلمين لم يدخُلوا الأندلُس لِيستقرُّوا فيها، بل لِمُساعدتهم على استعادة الحُكم مُقابل الحُصُول على الغنائم.
وبِفعل أهميَّة قُرطُبة في إحكام السيطرة على جنوبي الأندلُس، استجاب طارق بن زياد إلى نصيحة يُليان الذي قال له: «قَد فَتَحتَ الأَندَلُس، فَخُذ مِن أَصحَابِيَ أَدِلَّاء، فَفَرِّق مَعَهُم جُيُوشك وَسِر مَعَهُم إلى مَدِينَةِ طُلَيطِلَة»، ففصل فرقةً عسكريَّةً تُقدَّر بِسبعِمئة فارس، بِقيادة مُغيث الرومي، مولى عبدالملك بن مروان، وأرسلهُم إلى قُرطُبة لِفتحها.
عسكر مُغيث الرومي في قرية شقندة على بُعد ثلاثة أميال من قُرطُبة، وأرسل الجواسيس لِلوُقوف على أوضاعها، فعلم بِأنَّ النُبلاء غادروا المدينة ولم يبق فيها سوى الضُعفاء وحامية عسكريَّة تُقدَّر بِأربعمئة مُقاتل بِقيادة حاكم المدينة، فزحف إليها وضرب حصارًا عليها واقتحمها، وفرَّت حاميتها إلى كنيسة تقع في غربيّ المدينة وتحصَّنت فيها، فضرب مُغيث الرومي الحصار عليها، وضيَّق على من فيها وقطع الماء عنهم، واستمرَّ الحصار مُدَّة ثلاثة أشهر تضايق المُحاصرون خلالها واضطرُّوا إلى إخلائها والاحتماء بِجبل قُرطُبة.
وما أن خرج الحاكم من الكنيسة حتَّى شاهده مُغيث الرومي، فطارده وقبض عليه، فلمَّا شاهد أفراد الحامية ما حلَّ بِقائدهم استسلموا، فقتلهم مُغيث الرومي، وأبقى على حياة القائد لِيُسلِّمه إلى الخليفة.
أمَّا مصير السُكَّان الذين احتموا بِالكنيسة، فتقول إحدى الروايات أنَّ مُغيثًا الرومي أمَّنهم على حياتهم ومُمتلكاتهم ودينهم، وفي روايةً أُخرى أنَّهُ دعاهم إلى الإسلام أو الجزية فرفضوا، عندئذٍ أضرم النار في الكنيسة فاحترقوا، وسُمِّيت هذه الكنيسة بِـ«كنيسة الحرقى» أو «كنيسة الأسرى»، واستمرَّ المسيحيُّون في الأندلُس يُعظمونها لِصبر من كان فيها على دينهم من شدَّة البلاء.
إلى اللقاء في حلقة قادمة.