الأندلس في ذاكرة التاريخ (19)

الأندلس في ذاكرة التاريخ (19)

- إعداد الدكتور سليمان عباس البياضي

- باحث في التاريخ والحضارة

- عضو اتحاد المؤرخين العرب

- عضو إتحاد المؤرخين الدولي

- عضو الجمعية المصرية التاريخية

- كاتب وروائي وإعلامي

- محاضر في جامعة العريش

أوضاع الأندلس في عهد المرابطين:

رغم الحفاوة الأولية التي قابل بها عموم الأندلسيين الفتح المرابطي لما انتظروه من عدل الفاتحين وجهادهم ضد العدو، فإن الأمور لم تسِر بنفس القدر من المثالية في السنوات التالية، ما لبث اختلاف الطبائع والعادات بين المرابطين - أبناء الصحراء الأشداء الأجلاف - وغالبية الأندلسيين - المعتادين على نعومة العيش وفنون النعيم والبذخ - أن بدأ يعمل عمله في تغيُّر نفوس الآخيرين ضد حكامهم الجدد، خصوصًا وهي المرة الأولى منذ قرون التي لا تكون فيها الأندلس دولة مستقلة بذاتها، وإنما ولاية تابعة.

زاد في الفجوة بين الأندلسيين وحكامهم، أن اختلاط المرابطين بالأندلس أذهب كثيرًا من حرارة الدعوة الدينية، وما تميّز به المرابطون في بادئ الأمر من زهدٍ وورع، فسكن بعضهم في قصور حكام الأندلسيين الذاهبين، وبدأ بعضهم بالسقوط في ملذات الأندلس، وفي فرض بعض المكوس والضرائب الشبيهة بما مضى.

وهكذا أخذ الفارق بين المرابطين وبين العهود البائدة يضيق في أذهان الناس، حتى وصل الأمر ببعض الأندلسيين إلى الترحم على أيام ملوكهم الذاهبين، خاصة ابن عباد الذي تعاطف الكثيرون مع النهاية المأساوية لملكه وأسرته على يد المرابطين.

وكان من أبرز محطات الجهاد المرابطي بعد الزلاقة، نجاح المرابطين في استعادة حاضرة الشرق الأندلسي بلنسية عام 495هـ، بعد أن استولى عليها الإسبان لأعوامٍ بقيادة المغامر الشهير السيد الكمبيادور، والذي توفي أثناء الحصار الطويل للمرابطين للمدينة، وحاولت زوجته عبثًا استكمال الدفاع عن المدينة.

ما بعد يوسف  انتصارات تكتيكية وهزائم استراتيجية:

توفى يوسف بن تاشفين على رأس المئة السادسة الهجرية، وعلى رأس 100 من سنين عمره، قضى أكثر من نصفها في قيادة الدعوة المرابطية ودولتها، والتي أصبحت الآن أقرب ما تكون إلى دولة آل تاشفين، حيث سيخلف علي بن يوسف بن تاشفين أباه الشيخ في منصب أمير المسلمين. وكانت الأندلس حاضرةً في وصية يوسف لولي عهده، حيث أوصاه بالإحسان إلى أهل قرطبة، وأن يتجاوز عمن أساء منهم، وأمره بتخصيص أكثر من 17 ألف من الجند المرابطية لحماية الأندلس.

كان العام الأول من حكم علي ساخنًا، فقد عبر إلى الأندلس للجهاد احتذاءً بأبيه، وأرسل أخاه أبا الطاهر تميم للتوغل شمالًا، فأرسل ألفونسو لصدِّه جيشًا كبيرًا بقيادة ولي عهده الطفل - وكان وحيد أبنائه - محاطًا بخيرة فرسانه، وقادة دولته. يتقابل الجيشان أمام حصن إقليش عام 501هـ، ويحقق المرابطون انتصارًا مؤزرًا، ويسقط ابن ألفونسو قتيلًا مع الكثير من قادة الجيش، ليلحق بهم ألفونسو بعد أشهر قليلة، حزنًا وكمدًا. لكن كالعادة لم ينجح المرابطون في إتباع هذا الانتصار بانتزاع قاعدة إسبانية كبرى لتغيير الخريطة جذريًّا.

عام 503هـ يغزو المرابطون طليطلة، ويستولون على بعض القلاع والمدن القريبة منها، وفي العام التالي، يستولون على الكثير من قواعد البرتغال غربي الأندلس. لكن عام 509هـ، نالت المرابطون هزيمة كبيرة أمام الإسبان، فقدوا فيها بعض خيرة قادتهم؛ مما هزَّ موقفهم العسكري في الجزيرة كثيرًا.

عام 512هـ ينجح ألفونسو المحارب أمير دويلة أراجون المسيحية في الاستيلاء على سرقسطة، قاعدة الثغر الشمالي للأندلس، وثاني المدن الإسلامية الكبرى سقوطًا، ولم ينجح المرابطون في استعادتها. بعد حين يقوم ألفونسو المحارب بغزوة كبرى يخترق فيها الأندلس من أقصى الشمال إلى الجنوب، وينضم إليه المئات من المسيحيين من سكان المدن الأندلسية، والذين كانوا يضيقون بتزمت المرابطين ضدهم، وفرضهم أزياء محددة عليهم. فشل ألفونسو في احتلال غرناطة، فانسحب شمالًا. نكّل المرابطون بمسيحيي الأندلس انتقامًا منهم. استمرت الحروب لسنوات بين المرابطين وألفونسو المحارب، حتى قُتل عام ٥٢٨هـ في موقعة إفراغة شرقي الأندلس، والتي كانت آخر انتصارات المرابطين الكبيرة في الأندلس.

عام 514هـ تحدث سابقة كبرى؛ إذ ثار أهالي قرطبة ضد المرابطين، وطردوهم من المدينة، وذلك بعد أن تعدى أحد عبيد الوالي المرابطي على امرأة قرطبية، ورفض الوالي الاقتصاص من عبده، وأشهر السلاح في وجه القرطبين، فواجهوه بمثله. غني عن الذكر أن واقعة المرأة ما هي إلا شرارة، وأن الجو كان مهيئًا لاندلاعها لضيق الأندلسيين على مدار سنين من حكم المرابطين، الذي كان لا يخلو من قدر بين من الغلظة العسكرية، والتزمت الديني، فيما بدأ يفقد تدريجيًّا ما كان يمتاز به من عدلٍ وورع أيام يوسف بن تاشفين.

عبَر الأمير علي بن يوسف في جيش ضخم إلى الأندلس، لما بلغته أنباء تلك الفتنة، وحاصر قرطبة، لكن نجحت المفاوضات بينه وبين وجهاء المدينة في نزع فتيل الأزمة.

وهكذا كانت محصلة نصف قرن من جهاد المرابطين بالأندلس، والذي بدأ بالزلاقة في أحسن أحوالها، تثبيت وضع المسلمين بالجزيرة إلى حين، دون أن تنجح انتصاراتهم في قلب الطاولة في وجه الإسبان، أو في الحفاظ على وجود المرابطين نفسه، والذي كان العد التنازلي لنهايته قد انطلق آنذاك.

- نهاية المرابطين:

الطعنة التي تأتي من الظهر تكون قاصمة، تجسَّدت تلك الحقيقة في قصة نهاية المرابطين. لم تأتِ الضربات القاضية من الجبهة المشتعلة المفتوحة للحرب مع العدو المسيحي في شمال ووسط الأندلس، إنما جاءت من المغرب، وبطريقة شبيهة - مع الفارق - بما بدأت به دعوة المرابطين نفسها، ولعلَّ هذا كان سر سطوتها.

أوائل القرن السادس الهجري، يظهر فقيه  في المغرب هو محمد بن تومرت، والذي ينتسب إلى فرع بربري كان تاريخيًّا من خصوم لمتونة، العمود الفقري للمرابطين. يجاهر ابن تومرت بخلافه مع المرابطين في مسائل عقائدية وسياسية حتى يصل إلى تكفيرهم استنادًا إلى بعض الخلافات العقائدية، كما في قضية أسماء الله وصفاته، إذ رماهم بالشرك وتجسيم الله. سمّى ابن تومرت أتباعه بالموحدين دلالة على أنهم أصحاب العقيدة الصحيحة، وأعلن نفسه المهدي المنتظر الذي جاء لإصلاح أحوال الدنيا.

جمع ابن تومرت حوله الأنصار في معقله بصحراء المغرب، في قاعدته المسماه تينملَّل، وأعلن الحرب الشاملة على المرابطين، والذين كانوا قد فقدوا الرعيل الأول والثاني من أبطالهم وقادتهم العظماء الذين شهدوا ملاحم تأسيس الدولة، ثم البطولات الجهادية على أرض الأندلس، فلم تعُد دولتهم كما كانت في أوج قوتها العسكرية والسياسية في عهد يوسف بن تاشفين.

إلى اللقاء في حلقة قادمة.

الأندلس في ذاكرة التاريخ (20)

التعليقات (0)