الأندلس في ذاكرة التاريخ (20)
- إعداد الدكتور سليمان عباس البياضي
- باحث في التاريخ والحضارة
- عضو اتحاد المؤرخين العرب
- عضو إتحاد المؤرخين الدولي
- عضو الجمعية المصرية التاريخية
- كاتب وروائي وإعلامي
- محاضر في جامعة العريش
- سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين:
متابعةً للأحداث بصورة متسلسلة فقد كان لسقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين في عام (541هـ= 1146م) ومقتل ما يربو على ثمانين ألف مسلم في بلاد الأندلس؛ نتيجة الحروب بينهما - كان لهذه الأحداث العظام تداعيات خطيرة على كلِّ بلاد المغرب العربي والأندلس، وما يهمُّنَا هنا هو ما حدث في الأندلس، فكان كما يلي:
- سقوط ألمرية:
بعد قيام دولة الموحدين بعام واحد وفي سنة (542هـ= 1147م) سقطت ألمرية في أيدي النصارى، وهي تقع على ساحل البحر المتوسط في جنوب الأندلس؛ أي: هي بعيدة جدًّا عن ممالك النصارى، لكنها سقطت عن طريق البحر بمساعدة فرنسا. وفي ألمرية استُشْهِدَ آلافٌ من المسلمين، وسُبِيَتْ أكثر من أربعة عشر ألف فتاة مسلمة، وفي هذا يقول المقري التلمساني: «وأُحْصِيَ عدد من سُبِيَ من أبكارها فكان أربعة عشر ألفًا».
- سقوط طرطوشة ولاردة:
بعد ذلك - أيضًا - بعام واحد وفي سنة (543هـ = 1148م) سقطت طرطوشة ثم لارِدَة في أيدي النصارى، وهما في مملكة سرقسطة التي تقع في الشمال الشرقي، والتي كان قد حَرَّرها المرابطون قبل ذلك.
- توسع مملكة البرتغال:
وفي العام نفسه أيضًا توسَّعت مملكة البرتغال في الجنوب، وكانت من أشدِّ الممالك ضراوة وحربًا على المسلمين.
- احتلال النصارى تونس:
بدأ النصارى يتخطَّوْن حدود الأندلس ويُهاجمون بلاد المغرب العربي، فاحْتُلَّت تونس في السنة ذاتها - أيضًا - من قِبل النصارى، وهي خارج بلاد الأندلس.
ولقد كانت مثل هذه التداعيات شيئًا متوقَّعًا نتيجة الفتنة الكبيرة، والحروب التي دارت بين المسلمين في بلاد المغرب العربي.
- إنجازات عبدالمؤمن بن علي في المغرب:
كان عبدالمؤمن بن علي صاحب شخصية قوية، وصاحب فكر سياسي عالٍ؛ فبدأ وبطريقة عملية منظمة وشديدة في تأسيس وبناء دولته الفتيَّة الناشئة؛ فعمل على ما يلي:
- إنشاء المساجد والمدارس:
أنشأ الكثير من المدارس والمساجد، واهتم غاية الاهتمام بالتعليم والتثقيف، وكان كما يقول عبدالواحد المراكشي: «مُؤْثِرًا لأهل العلم محبًّا لهم، محسنًا إليهم، يستدعيهم من البلاد إلى الكون عنده والجوار بحضرته، ويُجري عليهم الأرزاق الواسعة، ويُظهر التنويه بهم، والإعظام لهم، وقسَّم الطلبة طائفتين طلبة الموحدين وطلبة الحضر، هذا بعد أن تسمَّى المصامدة بالموحدين؛ لتسمية ابن تومرت لهم بذلك؛ لأجل خوضهم في علم الاعتقاد، الذي لم يكن أحد من أهل ذلك الزمان في تلك الجهة يخوض في شيء منه».
- إقران الخدمة العسكرية بالعلوم التثقيفية:
عمل عبدالمؤمن بن عليٍّ على إقران الخدمة العسكريَّة بالعلوم التثقيفية، وأنشأ معسكرًا بقصره لتدريس وتعليم وتخريج رجال السياسة والحُكم، وكان يمتحن الطلاب بنفسه، فأنشأ جيلاً فريدًا من قوَّاد الحروب والسياسيين البارعين في دولة الموحدين، وكان يُدَرِّبهم على كل فنون الحرب.
- إنشاء مصانع للأسلحة:
أقام مصانع ومخازن ضخمة وكثيرة للأسلحة؛ ليستعدَّ بذلك لحرب الصليبيين في الأندلس.
- إعمال السيف في رقاب المخالفين:
لكن هذا لم يكن ليغضَّ الطرف عن كون عبدالمؤمن بن عليٍّ ذا فرديَّة في نظام الحُكم والإدارة؛ أي أنه كان - بِلُغَة العصر - حاكمًا ديكتاتورِيًّا، فرديَّ الرأي لا يأخذ بالشورى، ولقد كان سَفَّاكًا للدماء، حتى أحصى له مؤرخ العهد الشهير بـ «البيذق» أكثر من ثلاثين ألف قتيل بدأ بها عهده لنشر الرعب وتثبيت أقدام الدولة بالسيف.
بل لما سُرق من تاجر بعض ماله، جمع عبدالمؤمن أشياخ القبيلة التي وقع فيها السرقة، فأخرج للتاجر ماله منهم، ثم أمر بقتل الجميع «فأقبلوا يتضرَّعون ويبكون، وقالوا: تؤاخذ -سيدنا- الصلحاء بالمفسدين؟ فقال: يُخرج كلُّ طائفة منكم مَنْ فيها من المفسدين. فصار الرجل يُخرج ولده، وأخاه، وابن عمه، إلى أن اجتمع نحو مئة نفسٍ، فأمر أهلهم أن يَتَوَلَّوْا قتلهم، ففعلوا. فخرجتُ (والكلام للتاجر) من المغرب إلى صقلِّية خوفًا على نفسي من أهل المقتولين».
هذا كله في بلاد المغرب العربي، ولم تكن بلاد الأندلس قد دخلت بعدُ في حسابات عبدالمؤمن بن عليٍّ في ذلك الوقت، إلا ما كان منه في إرسال الجيوش إليها؛ لتحوزها بعد انتصاره على المرابطين، وكان ذلك بعد استيلائه على مراكش، وفي بعض المصادر بعد استيلائه على فاس وتلمسان؛ إلا أنه أولى اهتمامه أكثر للمغرب؛ لأنه كان يعمل على أن يستقرَّ له الأمر أولًا في بلاد المغرب العربي حيث أنصار المرابطين في كل مكان، فلقد كانت المغرب حاضرة الدولة.
عبدالمؤمن بن علي في الأندلس:
بعد تساقط المرابطين في المغرب أمام الموحدين، تبعهم الموحدون في الأندلس، واستولوا على المدن الأندلسية التي كانت في يد المرابطين، وفي سنة (543هـ = 1148م) وبعد استيلاء الموحدين على كثير من البلاد الأندلسية، قدم القاضي ابن العربي إلى بلاد المغرب، وبايع عبدالمؤمن بن علي، وطلب النجدة لأهل الأندلس، وإن مبايعة القاضي ابن العربي لعبدالمؤمن بن علي قد تُعطي إشارة إلى أن عبدالمؤمن بن علي لم يكن يعتقد أو يدعو إلى أفكار ضالَّة كما في الدعوة إلى العصمة أو المهديَّة، أو غيرها مما كان يَدِينُ به محمد بن تومرت وبعضٌ من أتباعه.
قَبِلَ عبدالمؤمن بن علي الدعوة من القاضي ابن العربي، وجَهَّزَ جيوشه، وانطلق إلى بلاد الأندلس، وهناك بدأ يحارب القوَّات الصليبية، حتى ضمَّ معظم بلاد الأندلس الإسلامية، التي كانت في أملاك المرابطين إلى دولة الموحدين، وكان ممن قاتله هناك بعض أنصار دولة المرابطين، إلا أنه قاتلهم وانتصر عليهم وذلك في سنة (545هـ = 1150م).
وفي سنة (552هـ = 1157م) استطاع أن يستعيد ألمَرِيَّة، وفي سنة (555هـ = 1160م) استعاد تونس من يد النصارى، وبعدها بقليل - ولأول مرة - استطاع أن يضمَّ ليبيا إلى دولة الموحدين، وهي لم تكن ضمن حدود دولة المرابطين.
وبهذا يكون قد وصل بحدود دولة الموحدين إلى ما كانت عليه دولة المرابطين، إضافة إلى ليبيا، وقد اقتربت حدود دولته من مصر كثيرًا، وكان يُفَكِّر في أن يُوَحِّد كل أطراف الدولة الإسلامية تحت راية واحدة تكون لدولة الموحدين.
إلى اللقاء في حلقة قادمة.