حركة الترجمة في العصر العباسي وتأثيرها على الحضارة الإسلامية (1)

حركة الترجمة في العصر العباسي وتأثيرها على الحضارة الإسلامية

(132- 923هـ/ 749- 1517م)

المبحث الأول والثاني

إعداد

الدكتور: سليمان عباس سليمان مسلم البياضي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

ومحاضر في جامعة العريش

جمهـوريـة مـصــر العـربيـة


المقدمـــــــــــــــة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، تعتبر حركة النقل والترجمة جسر من التواصل الفكري والثقافي بين الحضارات المختلفة، فقامت الحضارة الإسلامية بترجمة مختلف المؤلفات اليونانية ونقلها إلى لغات أخرى تساهم في نهضة الحضارة الإنسانية وكان هناك دوافع عديدة دعت إلى حركة النقل والترجمة منها إقبال أهل الذمة على الدخول في الإسلام وحاجتهم إلى المنطق اليوناني لاستخدامه كسلاح في مواجهة المخالفين للدين الإسلامي من اليهود والنصارى وظهور فرق كلامية كان لها الأثر في إلتقاء الثقافة ولعبت الترجمة دورًا بارزًا في إلتقاء الثقافة العربية بالثقافات الفارسية واليونانية والهندية وكان للخلفاء العباسيين دورا هاما في الحضارة الإنسانية وبخاصة عملية النقل والترجمة فقاموا بترجمة العديد من المؤلفات مثل كتب الطب والتنجيم والفلسفة وأقبل المسلمون على تحصيل العلم النافع وذلك من خلال تعاليم القرآن الكريم فأنفتحوا على ثقافات الشعوب المختلفة وأخذوا ما يناسب تعاليم الدين الإسلامي وكانت للترجمة دورا مهما في إرتقاء الفكر الإنساني بوجه عام والحضارة الإسلامية بوجه خاص وكانت بداية لحركة علمية واسعة تربط بين ثقافات الشعوب الشرقية وثقافات الشعوب الغربية وعملت حركة الترجمة على إزدهارات مهمة عديدة مثل مهنة الوراقة والوراقون الذين اخذوا ينسخون الكتب المترجمة لعدد من الناس وتعد حركة النقل خطوة حضارية في بناء حضارات فكرية مختلفة تحقق المعادلة التاريخية بين الثقافات العالمية الكبيرة على أساس التفاعل المتبادل بين الحضارات وكان للترجمة كلمة انطلقت من أول كلمة في القرآن الكريم التي شملت على أوسع المعاني والدلالات الحضارية والعلمية ومرت الترجمة بعدة مراحل في العصر العباسي وكانت أهم هذه المراحل هي وصول المأمون إلى الحكم عام 198م فأهتم الخليفة المأمون بحركة الترجمة وكان يعطي المترجمين أموالا كثيرة وكانت هناك مراكز كبيرة لحركة الترجمة التي كان لها الأثر في الحضارة العربية الإسلامية، وأعتنت هذه المراكز بترجمة الكتب في علم الفلك والرياضيات والفلسفة، ومن أهم هذه المراكز الإسكندرية وأنطاكية والرها وكانت هذه المراكز عبارة عن معابر عبرت من خلالها الثقافات الوافدة وتفاعلت مع الثقافة الإسلامية العربية عن طريق الحركة العلمية وكان هناك عدد كبير من المترجمين مثل عبد الله بن المقفع ويوحنا بن ماسويه وغيرهم قاموا بترجمة عدد كبير من المؤلفات العلمية في كافة المجالات وكانت للترجمة آثارا واضحة على الثقافة العربية، نجد أثرا للثقافة الفارسية في اللغة العربية وأيضا ً في الآداب ونظم الحكم وأدوات الزينة وأنواع المأكل والملبس وآلات الغناء وكانت الثقافة الفارسية عنصر قوي الأثر في العصر العباسي وأيضا نجد أثر الثقافة الهندية في الحضارة العربية مثل نظريات الهنود في الحساب والهندسة وكان لحركة الترجمة نتائج مثل إرتقاء الثقافة الإسلامية عن باقي الحضارات.

أهمية البحث:

ترجع أهمية البحث إلى الدور التاريخي والحضاري لحركة الترجمة في العصور الإسلامية الأولى التي ساهمت في تشكيل ووجدان الحضارة الإسلامية بمختلف أنواع الثقافات.

أهداف البحث:

تهدف هذه الدراسة إلى التالي:

  • التعرف على أهمية حركة الترجمة في العصور الإسلامية الأولى.
  • إلقاء الضوء على الأسباب التي أدت إلى إزدهار حركة الترجمة في العصر العباسي الأول.
  • التعرف على جهود الخليفة المأمون.
  • إلقاء الضوء على جهود العلماء في حركة الترجمة.

سنتناول ذلك في ستة مباحث:

المبحث الأول: العوامل التي أدت لحركة النقل والترجمة في العصور الإسلامية الأولى.

المبحث الثاني: أهمية حركة النقل والترجمة ومراحلها.

المبحث الثالث: مراكز حركة الترجمة التي أثرت في الحضارة العربية الإسلامية والحضارات المختلفة.

المبحث الرابع: الخليفة المأمون وحركة الترجمة.

المبحث الخامس: اشهر المترجمين في العصور الإسلامية الأولى.

المبحث السادس: أثر الترجمة على الثقافة العربية ونتائجها.


المبحث الأول

العوامل التي أدت لحركة النقل والترجمة في العصور الإسلامية الأولى

هناك عدة عوامل دعت العرب إلى حركة النقل والترجمة منها:

1- إقبال أهل الذمة على الدخول في الدين الإسلامي وضرورة اللغة العربية عند أمثالهم لإتقان القرآن والفرائض الدينية، فدعت الحاجة إلى تمهيد السبل أمام هؤلاء الأعاجم إلى إمتلاك النواحي المعنوية في العربية والتضلع في متنها الزاخر بالمفردات مما جعل معجم الخليل بن أحمد الفراهيدي أساسا لنشأة المعجم العربي وتطوره ثم قام سيبويه الفارسي بوضع علم النحو [1] بصورة نظامية أستمرت كذلك عبر الأجيال[2].

2- بعد نجاح حركة الفتح الإسلامي للمسلمين وانعدام التوازن بين قوتهم المادية والعسكرية والسياسية وبين واقعهم الحضاري، فراحوا يعملون على إحلال التوازن بإحتضانهم للعلم اليوناني والعلوم الأخرى وبالنقل من تلك العلوم كلها[3].

3- حاجتهم إلى المنطق اليوناني والفلسفة [4] لإستخدامها كسلاح في مواجهة المخالفين والمنكرين لدينهم الإسلامي من يهود ونصارى وزرنادقة وملحدين[5].

4- ظهور الفرق الإسلامية ومذاهبها فكان لها أثر كبير في توسع الثقافة في البلاد المفتوحة حيث ألتقت الثقافة العربية بالثقافات الفارسية واليونانية والهندية[6].

5- توسعت الدولة الإسلامية نتيجة الفتوحات التي قام بها العرب وظهرت الحاجة الماسة إلى علوم لم تكن موجودة عندهم كالعلوم الرياضية والطب والفلك لضبط أوقات الصلاة وتعيين أشهر الصوم والحج[7].

6- اهتمام الخلفاء بالنقل والترجمة والسخاء في الدفع للناقلين وعقدهم المجالس والمناظرات العلمية مثل الخليفة العباسي المأمون.

7- إنتقال الخلافة من دمشق حيث كانت عاصمة الدولة الأموية إلى بغداد وفيها تأسست الدولة العباسية وكانت الثقافة الفارسية طاغية على العلوم وهي ثقافة تتمتع بميزة العرافة في الحضارة[8].

8- احتكاك العرب المسلمين بالعناصر المثقفة في البلاد المفتوحة مما ايقظ عقولهم ونسبة أذهانهم وأعدهم لإلتماس العلوم الجديدة ونقل كتبها إلى لغتهم العربية[9].

9- العلم يدعو إلى العلم، فزيادة الرخاء وتوفر الأموال اشعرت الخلفاء بضرورة تقدم العمران وتوسيعه، فبنوا الجسور والسدود وشقوا الطرقات ورفعوا الصروح، مما جعلهم يحتاجون إلى علم الهندسة فأمر الخلفاء بترجمة كتبها عن اليونانية وشجعوا علماءها وأغدقوا عليهم الأموال[10].

10- إتصال العرب بأمم مختلفة وأطلاعهم على ثقافات وعلوم جديدة، فأتجهت نفوسهم إلى الحياة الفكرية والفنية الجديدة وأحبوا أن يوسعوا آفاقهم في هذه المجالات الجديدة[11].

11- سيادة اللغة العربية نتيجة النفوذ السياسي العربي، مما جعلها لغة عالمية أستدعى نقل العلوم إليها خاصة وأنها لغة الدولة ولغة الدين وإحدى مكونات الحضارة الإسلامية وهي لغة القرآن الكريم وأيضا جسر التواصل مع اللغات الأخرى.

12- التنافس بين العرب والشعوبيين كان أيضا من العوامل المهمة وراء حركة الترجمة، فالعرب متباهون بقوتهم العسكرية وأمجادهم الشعرية والأدبية فخورون بدينهم الجديد وبمعجزته القرآنيه وبنبيهم العربي الأمين محمد (صلى الله عليه وسلم)، كما كان لباقي الشعوب خاصة الفرس حضاراتهم وثقافاتهم وآدابهم التي راحوا يتباهون بها فترجموا بعض آثارهم إثباتا لوجودهم ولرقيهم الحضاري، وربما محاربة لدين الإسلام الذي جعل من العرب سادة عليهم وسادة على العالم القديم[12].

13- اهتمام الخلفاء العباسيين بترجمة كتب الطب والتنجيم، وذلك للحاجة الماسة إلى هذين العلمين حيث كان البعض منهم بحاجة إليهما، فالخليفة المنصور كان مصابا بمعدته، بالإضافة إلى اعتقاده بعلم التنجيم وعلاقة النجوم بحياة الإنسان ومصيره، فأستقدم الأطباء والمنجمين وأصبح الطب والتنجيم من العلوم التي تعتني بها الدولة وتدار من قبل رجال وأخذ معظم الخلفاء الآخرين أطباء ومنجمين لهم لهذا الغرض[13].

14- كان الإسلام قد أستتب في هذه البلاد وأقبل أبناء تلك الأمم على الإسلام يعتنقونه واللغة العربية يتعلمونها وأختلط العرب بتلك الشعوب وأندمجوا جميعا في أمة واحدة وتلك الأمم أنضوت تحت لواء الإسلام، ولقد وجد المسلمون أنفسهم ورثة للعديد من الحضارات القديمة مثل الهلينية والفارسية واليونانية[14].

15- إن العرب قد وجدوا في بلاد فارس وسوريا ومصر حينما أستولوا عليها خزائن من العلوم اليونانية، فأمروا بنقل ما في اللغة السريانية منها إلى اللغة العربية ثم أمروا بأن ينقل إليها من اللغة اليونانية ما لم يكن قد نقل إلى اللغة السريانية فأخذت دراسات العلوم والأدب تسير قدما نحو الرقي، ولم يكتف العرب بما نقل إلى لغتهم فقد تعلم عدد غير قليل منهم اللغة اليونانية ليستبقوا منها علوم اليونان، وقد كانت معارف اليونانية واللاتينية القديمة أساسا لثقافة متعلمي العرب، ولكن المفطورين على قوة الإبداع لم يكتفوا بحال الطالب ولم يلبثوا أن تحرروا بما عرف عنهم من النشاط حتى عاد الإغريق وهم ليسوا أساتذة العرب[15].

16- حركة تعريب الدواويين في الدولة الإسلامية، فهذه الحركة كانت تتمه ترجمة العلوم في عهد الأمويين وكانت حركة الترجمة بسيطة وفردية فلما جاء العباسيون وانتقل مركز الثقل السياسي والثقافي إلى بغداد أصبحت الترجمة عمل أمة أو مدرسة كبيرة لا يغيرها موت فرد أو أفراد منها والتعمق في تعريب العلوم في العصر العباسي يرجع أساسا إلى أن المسلمون أوغلوا في الحضارة وهي تستند إلى العلم فألتمسوه عند اهله من أصحاب الحضارات الأخرى[16].

17- أقبل المسلمون على تحصيل العلم النافع من تعاليم دينهم الحنيف ولم يدخروا وسعا في الإنفتاح على ثقافات الأمم التي شملها الإسلام والتفاعل معها والإفادة من علومها وفنونها ومناهجها فالحكمة في عرف الإسلام ضالة المؤمن عليه أن يلتقطها أو يقتنصها أنى وجدها، وفي ظل هذا المبدأ الإسلامي لم يجد المسلمون حرجا من الإستعانة بعلماء وفلاسفة ومثقفين مسيحيين وصابئة في ترجمة ونقل علوم الأمم الأخرى إلى اللغة العربية[17].

 


المبحث الثاني

فوائد حركة النقل والترجمة ومراحلها

أولًا: فوائد الترجمة:

تعد حركة النقل والترجمة تطور وارتقاء في تاريخ الفكر الإنساني ولها أهمية في الحضارة [18] الإسلامية وغيرها من الحضارات:

1- أن حركة الترجمة كانت بداية حركة علمية نشطة، فقد حفزت المسلمين إليىالإفادة مما أطلعوا عليه من كتب التشريع العديدة مما ترجم لأبقراط وجالينيوس وغيرهما[19].

2- حركة غير مسبوقة من قبل، ذلك أن انتقال العناصر الثقافية والحضارية بين الأمم السابقة لم يكن يتم عن طريق الترجمة من لغة إلى أخرى بل كان يتم عن طريق الاتصال المباشر بين الأفراد مثلما كان يحدث في زيارات يقوم بها الفلاسفة اليونان لمصر والشام وفارس وتعلم ما لديهم من حكمة وعلوم أو ما كان ينتقل عن طريق التجار وهي الوسيلة التي أنتقلت عن طريقها اللغات والحروف ونظم الترقيم والأعداد والجداول الفلكية، أو عن طريق الغزو والحرب مثل غزو فارس لبلاد اليونان ومصر أو فتح الإسكندر للعالم القديم، أما أن تقوم حركة ثقافية موجهة ومنظمة لنقل تراث حضاري سابق إلى لغة أخرى عبر قنوات عديدة فهذا هو الغير مسبوق[20].

3- عملت حركة الترجمة على ازدهار مهنة الوراقة والوراقين في بغداد، وأخذوا ينسخون الكتب المترجمة لعدد كبير من الناس الذين يرغبون في إقتنائها أو بيعها إذ كانوا يعنون بدراية هذه الكتب ومناقشتها في المجالس الأدبية والعلمية[21].

4- أتسعت اللغة العربية بالمصطلحات العلمية والتعابير الفلسفية وذلك من خلال حركة الترجمة[22].

5- إيقاظ أوروبا من ثباتها الذي طال قرونا، أما في عالمنا العربي الإسلامي فيكفي أن نقول إن المشرق العربي والإسلامي قد بدأت فيه منذ مطلع حكم بني العباس في منتصف القرن الثامن للميلاد حركة ترجمة واسعة استمرت كحركة أمة في ازدهار ملحوظ حتى أوائل القرن العاشر وعن طريقها انتقل إلى لغة العرب تراث الأمم ذات الحضارات القديمة[23].

6- إن الترجمة قد دفعت إلى ظهور حركة تأليف في بعض المعارف، فقد بدأ المترجمون يضعون الرسائل والكتب ليستعملها الطلاب على شكل ملخصات في شتى أنواع العلوم وبخاصة الطبية منها، ثم ما لبثت هذه الحركة أن توسعت بين العلماء العرب الذين أخذوا يكتبون على أسس متينة من المعرفة، فقد ظهرت في الطب والفقه والتاريخ واللغة مثلا كتب كثيرة وبعضها بعدة أجزاء بحيث كان بعضها أشبه بالموسوعات كما كان المؤلف يصنف عشرات الكتب في المواضيع مدللا على سعة معرفته بمختلف العلوم[24].

7- وفرت حركة الترجمة والنقل مادة حضارية أتاحت لعلماء العصرين الوسيط والحديث إستكمال وإبداع ما قدموا للعالم من إختراعات وإبتكارات وتطورات علمية في شتى الميادين، فقد عرف الغربيون هذه الترجمات اللاتينية وغيرها من اللغات[25].

8- إن حركة الترجمة كانت خطوة حضارية تبدأ في النهوض إنما تبنى علمها على علم من سبقها فالحضارة صرح كل أمة تضع فيه لبنة أو هي دائرة متصلة الحلقات ولقد قامت الأمة الإسلامية بدورها فمنحت الحضارة الإنسانية زهرة يانعة[26].

9- تعمل حركة الترجمة على تحقيق المعادلة التاريخية التي تحكم العلاقة السوية بين الثقافات العالمية الكبرى على أساس التفاعل المتبادل من جهة مع الاحتفاظ بالخصوصيات والتمايز من جهة أخرى، ذلك أن الترجمة تمثل إحدى صور هذا التفاعل المتبادل بين الحضارات وأن الثقافة الإنسانية ذات موارد متعددة بين شرقية وغربية وأن تبقى كل حضارة على طابعها ومقوماتها التي تنفرد بها[27].

10- إن حركة الترجمة عملت على تطوير حضارة عربية راقية عن طريق تفاعل الفكر القديم، ولا تقتصر به الفكر اليوناني فحسب وإنما الفكر الهندي والفارسي وتراث ما بين النهرين القديم مقترنة بالذهبية العربية المتفتحة بواسطة أشخاص متضلعين بعدة لغات ومحتكين بأكثر من حضارة[28].

11- عملت الترجمة على تطور الأدب العربي بما دخل عليه من تعابير وأفكار وخصائص ومعاني جديدة والإضافة إلى تسرب عدد من المجازات الشعرية والأدبية والإستفادة من المقاييس والمدارك الأجنبية في معالجة عدد من العلوم الشرعية واللغوية[29].

12- إن حركة الترجمة الإسلامية كانت عبقرية بحركها حس حضاري فائق الحساسية مما جعل حركة الترجمة لا تقوم على العشوائية وإنما قامت على الإنتقاء العبقري للموضوعات التي لم تستنفذ إمكانيات البحث والإبتكار مثل ذلك إتجاههم إلى الحساب الهندي من بين جميع أنماط الترقيم التي كانت متاحة أمامهم ثم إختيار العناصر الثقافية التي ليس فيها باع طويل فلم يقوموا مثلا بترجمة أدب أو شعر اليونان أو اللاتين والذي بلغ حد الكمال وذلك أن لهم في الشعر والأدب باع طويل[30].

13- إن المسلمين لم يتعاملوا مع هذه المترجمات بطريقة حرفية جامدة، بل سرعان ما قاموا بتفعيلها في إطار نظامهم الثقافي والتعليمي وقد نقلوا المسلمون وترجموا كثيرا من التراث العلمي للأمم الأخرى، فإنهم لم يلبثوا أن أعتمدوا على أنفسهم وعلى المناهج العلمية التي ابتكروها فأفتتحوا المدارس والمعاهد والجامعات وألفوا الكتب والمراجع والأبحاث وأقاموا المراصد والمشافي والمختبرات يدفعهم إلى ذلك نشاط وثاب وهمة عالية[31].

14- الترجمة هي همزة الوصل بين الثقافات والجسر الواصل بين الحضارات والنافذة المفتوحة على تاريخ الشعوب بها تعرف المواطن العبقرية والإبداع وتكتشف خصائصها ومميزاتها والترجمة تزيل حواجز الخطأ والوهم التي تمنعها من تبادل الفهم الصحيح والعطاء النافع[32].

15- عملت الترجمة على تغير نطاق الجدل الديني البحث إلى الإهتمام بالأبحاث العلمية والفلسفة فأخذ العلماء يترجمون رغبة في العلم والدراسة بدلا من المال أو المنصب ثم بدأت مرحلة التأليف[33].

16- أضفت الفلسفة اليونانية ضوءا جديدا على كافة أوجه الحياة الإسلامية من دينية ولغوية وإجتماعية وفلسفية[34].

17- إن ثورة الترجمة كانت أمرا حتميا وضروريا أن تصدر من أمة القرآن الكريم التي كانت أول كلمة فيه هي " إقرأ " على أوسع المعاني والدلالات الحضارية عامة والعلمية خاصة[35].

18- عملت حركة الترجمة على التنافس الحضاري بين بغداد حاضرة العباسيين المزدهرة والقسطنطينية حاضرة البيزنطيين ذات التاريخ والحضارة العريقة ومن المفترض أن خلفاء بني العباس أرادوا أن يكون لعاصمتهم الجديدة العمق الحضاري المنافس للدولة البيزنطية من خلال حركة الترجمة واسعة النطاق[36].

ثانيا: مراحل الترجمة في العصر العباسي:

المرحلة الأولى:

تمتد من عصر الخليفة جعفر المنصور إلى وفاة هارون الرشيد أي عام 136 إلى 193هـ، إنه الجيل الأول من المترجمين الذي يضم يحيى بن البطريق مترجم المجسطى في عهد المنصور وجرجس بن جبريل الطيب الذي عاش عام 184هـ وعبد الله بن المقفع المتوفي عام 143هـ الذي ترجم كتب المنطق ويوحنا بن ماسويه في عصر الرشيد وحتى عصر المتوكل الذي أهتم بكتب الطب خاصة وسلام الأبرص وغيرهما [37]، سار هارون الرشيد (170–193هـ/786–808م) على نهج المنصور من حيث تشجيعه للترجمة، فترجمت له كتب طبية كتلك التي ترجمها له يوحنا بن ماسويه الذي أتخذه الرشيد طبيبا خاصا له وترجم للرشيد أيضا كتاب أقليدس في الهندسة المسمى "الأصول" للمرة الأولى على يد الحجاج بن مطر سميت هذه الترجمة "الهارونية" تمييزا لها عن الترجمة المأمونية لنفس الكتاب التي تمت على عهد الخليفة المأمون كما أنشأ الرشيد "بيت الحكمة" في بغداد الذي كان بمثابة أكاديمية كبيرة نقل إليها ما وجد من كتب أنقرة ومن عمودية عندما فتحها ومن بلاد الروم وجعل المترجم المشهور يوحنا بن ماسويه أمينا عليها[38].

المرحلة الثانية:

تمتد من وصول المأمون إلى الحكم عام 198هـ، إنه الجيل الثاني من المترجمين الذي ينتمي إليه يوحنا بن البطريق والحجاج بن مطر الذي عاش عام 214هـ وقسطا بن لوقا الذي عاش 220هـ وعبد المسيح بن نعيمة الحمصي الذي عاش عام 220هـ وحنين بن اسحق المتوفي عام 262هـ وابنه اسحق بن حنين 298هـ/910م وثابت بن قرة المتوفي عام 288هـ/600م، لقد ترجمت في تلك الفترة بخاصة كتب أبقراط وجالينوس وارسطو وبعض أعمال أفلاطون[39].

وتبدأ عناية المأمون بالترجمة بعد دخوله بغداد سنة 204هـ/819م مع مطلع القرن الثالث الهجري وهذا القرن يعتبر بحق نقطة تحول في تاريخ الترجمة لما آلت إليه من التطوير والانتشار السريع في امتدادها إلى ضروب العلوم المختلفة التي خضعت لها [40]، وأهم ما يميز تلك المرحلة من تاريخ الترجمة أن الحصول على كتب الأوائل بأنواعها أصبح مطلبا ثقافيا عاما، وأن البحث عنها في بلاد الروم واستدعاء التراجمة لها وإجزال العطاء لهم لم يكن عملا ملكيا فقط ولكن كان الأفارد الأغنياء يتولون ذلك ويقوم به التراجمة أنفسهم [41]، ولم تكن بلاد الروم هي المصدر الوحيد للكتب والعلوم القديمة بل إن الدولة الإسلامية في ذلك الوقت كانت تحكم فعليا سائر المدن القديمة التي بقي فيها تراث اليونانيين في بلاد الشام ومصر، كما أن الدولة الإسلامية كانت تحت يدها بالفعل كل التراث الفارسي، وقد شملت السفارات الهند والصين حيث تراث علمي وحضاري آخر زاخر[42].

المرحلة الثالثة:

وتقع عام 300هـ/912م تاريخ وفاة حبيش وتصل إلى نهاية النصف الأول من القرن الرابع الهجري ويمكن أن نذكر من مترجمي تلك الفترة متى بن يونس الذي لا يعرف تاريخ وفاته وسنان بن ثابت بن قرة المتوفي عام 360هـ/971م ويحيى بن عبادي المتوفي عام 363هـ/974م ولقد اهتم هؤلاء المترجمون بكتب أرسطو في المنطق والطبيعة[43].

إن القرن الرابع الهجري يتميز بهذه الخصوصية فإنه كان قريب الشبه بالقرن السابق عليه من حيث كثرة عدد النقلة الذين قدموا للعلم والحضارات خدمات جليلة [44]، واستمرت حركة الترجمة على مختلف المستويات ونقل وترجمة العلوم الأجنبية إلى العربية، ولكنهم في القرن الرابع الهجري انصرفوا إلى الإنتاج الشخصي[45].


الحواشي

[1]  النحو : قواعد بها وظيفة كل كلمة داخل الجملة وضبط أواخر الكلمات وكيفية إعرابها وتنقسم الكلمة العربية إلي ثلاث أقسام إسم وفصل وحرف . شريف محسن محمود " دليل مفاتيح الإعراب الميسر , دار السلام , القاهرة , طـ 1, 1433 – 2012 م  , صــــــ 11 .   

[2]  حكمت نجيب عبد الرحمن : دراسات في تاريخ العلوم عند العرب , الناشر جامعة الموصل , العراق , 1397 هـ - 1977 م , صــــــ 26 .

[3]  تاج السر أحمد حران : العلوم والفنون في الحضارة الإسلامية , مكتبة الرشد , الرياض , طـ 3 , 1428 هـ - 2007 م , صــــــ 38  .

[4]  الفلسفة : عرف الفلاسفة المسلمون الفلسفة تعريفات عدة منها ما ذكره الكندي بقوله إنها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان , لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق و في عمله العمل بالحق وكلمة الفلسفة كلمة يونانية الأصل و هي تتكون من مقطعين يونانيين فيما معناه " محبة " سوفيا " الحكمة " وتفسيرها " محبة الحكمة " . راغب السرجاني : ماذا قدم المسلمون للعالم وإسهامات المسلمين في الحضارة الإسلامية مؤسسة أقرأ القاهرة  , 1430هـ - 2009 م الطبعة الأولى الجزء الأول ص 347

[5]  حسن عاصي : المنهج في تاريخ العلوم عند العرب , بيروت , طـ 2 , 1412 هـ - 1992 م , صــــــ 32 . 

[6]  توفيق اليوزبكي : التعريب في العصرين الأموي والعباسي , كلية آداب جامعة الموصل ، مجلة الرافدين , العدد 7 , 1976 , صــــــ47 , 48 .

[7]  عمر فروخ : العلوم عند العرب , دار الملايين , بيروت , 1970 , صــــــ 112 . 

[8]  حكمت عبد الرحمن : المرجع السابق , صــــــ 27 . تاج السر : المرجع السابق , صــــــ 39 .

[9]  تاج السر : المرجع السابق , صـــــ 38 . 

[10]  عبده الشمالي : دراسات في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية وآثار رجالها , بيروت , طـ 4 , 1965 , صــــــ 157 . 

[11]  عمر فروخ : المرجع السابق , صــــــ 112 . حكمت عبد الرحمن : المرجع السابق , صــــــ 27 .

[12]  تاج السر : المرجع السابق , صــــــ38 , 39 .

[13]  حكمت عبد الرحمن : المرجع السابق , صــــــ 26 . 

[14]  عالية شعبان : العلوم الإسلامية عبقرية التواصل وعبقرية الإبداع , دار الثقافة للطباعة والنشر , القاهرة , 1997 , صــــــ 37 . 

[15]  محمد عبد الرحمن مرحبا : الموجز في تاريخ العلوم عند العرب , دار الكتاب المصري , القاهرة , طـ 2 , 1978 , صــــــ 73 . 

[16]  طه عبد المقصود : الحضارة الإسلامية , دار الثقافة العربية , القاهرة , طـ 1 , 1422 هـ - 2001 م , صــــــ 164 . 

[17]  أحمد فؤاد باشا : الإعمار الحضاري فريضة إسلامية , مكتبة البخاري , القاهرة , طـ 1 , 1432 هـ - 2011 م , صــــــ 1000.

[18]  الحضارة : هي ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم تصلح لقيادة البشرية , راغب السر جاني : المرجع السابق جـ 1 ,  صــــــ 6 .

[19]  عبد الحليم عويس : الحضارة الإسلامية إبداع وآفاق المستقبل , الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة , 2012 م , صــــــ 126 . 

[20]  عالية شعبان : المرجع السابق , صــــــ 34 .

[21]  ناجي معروف : أصالة الحضارة العربية , مطبعة التضامن , بغداد , طـ 2 , 1969 م , صــــــ 431 .

[22]  حكمت عبد الرحمن : المرجع السابق , صــــــ 28 . عمر فروج : المرجع السابق , صــــــ120 . 

[23]  توفيق الطويل : في تراثنا العربي الإسلامي , عالم المعرفة , الكويت , العدد 87 , 1405 هـ - 1985 م , صــــــ 74 .

[24]  عبد الحليم عويس : المرجع السابق , صــــــ 126 .

[25]  حكمت عبد الرحمن : المرجع السابق , صــــــ 28 . 

[26]  عالية شعبان : المرجع السابق , صــــــ 35 . 

[27]  احمد فؤاد باشا : المرجع السابق , صــــــ 100 .

[28]  حكمت عبد الرحمن : المرجع السابق , صــــــ 28 . 

[29] عمر فروخ : المرجع السابق , صــــــ 120 . 

[30] عالية شعبان : المرجع السابق , صــــــ 34 .

[31] عبد الحليم عويس : المرجع السابق , صــــــ 126 . 

[32]  عبد الفتاح مصطفى غنيمة : الترجمة في الحضارة العربية الإسلامية , وزارة الأوقاف , القاهرة , العدد 150 , 1428 هـ - 2007 م , صــــــ 46 .

[33]  حكمت عبد الرحمن : المرجع السابق , صــــــ 28 .

[34]  المرجع نفسه , الصفحة نفسها .

[35]  محمد مؤنس عوض : في رحاب الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى , دار العالم العربي , القاهرة , طـ 1 , 1432 – 2011 , صــــــ 125 .

[36]  محمد عوض : المرجع السابق , صــــــ 144 .   

[37]  عبد الفتاح غنيمة : المرجع السابق , صــــــ 55 .

[38]  حربي محمود وحسان حلاف : العلوم عند العرب أصولها وملامحها الحضارية , بيروت , 1995 , صــــــ 247 , 250   

[39]  عبد الفتاح غنيمة : المرجع السابق , صــــــ 55 , 56 .   

[40]  طه عبد المقصود : المرجع السابق , صــــــ 168 .  

[41]  المرجع نفسه , الصفحة نفسها .   

[42]  محمد إلهامي : رحلة الخلافة العباسية , مؤسسة إقرأ , القاهرة , طـ 1 , 2013 م , جـ 1 , صــــــ 534.

[43]  عبد الفتاح غنيمة : المرجع السابق , صــــــ 56.

[44]  طه عبد المقصود : المرجع السابق , صــــــ 172.

[45] ) المرجع نفسه , الصفحة نفسها.

التعليقات (0)