رسالة من رئيس التحرير .. إلى مغترب في السعودية

رسالة من رئيس التحرير .. إلى مغترب في السعودية

مقالة تم نشرها في صحيفة الطليعة الحضرمية

العدد (60)، 11 صفر 1380هـ

4 أغسطس 1960م

يسأل أحد المغتربين في السعودية عن الظروف التي وجدت فيها (الطليعة) والمراحل التي قطعتها حتى الآن، ثم خططها بالنسبة للمستقبل.

وقد استغرق الرد على السؤال هذا المقال، الذي ننشره، بعد أن استأذنا السائل في نشره.

يقول الرد:

عزيزي: منذ أن أصدرنا في ۲۸ مايو 1959م أول أعداد مجلة (الطليعة) واجهتنا

متاعب ومصاعب لا حصر لها. ولولا أننا قد عقدنا العزم على المضي قدما في الطريق الذي رسمناه لتوقف بنا السير ولألقينا السلاح في أول جولات المعركة، ولكننا لم نأبه للصراخ من حولنا ولم نهتم لأصوات الحقد والكراهية تنبعث كليلة، لاهثة، وأثبتنا بالدليل أن الطليعة سائرة دائما في الطليعة. ونقولها اليوم صريحة دون افتخار أن حضرموت لم تعرف مجلة كالطليعة كان لها مثل هذا الانتشار الازدهار.

وإننا لنؤكد أن الطليعة لن تغمض لها عين ولن تتوانى أبدا عن كشف كل الانحرافات، ولن تسمح لأعمال التهريج وحملات التضليل أن تنجح أو أن يكون لها شأن أو بال. لقد وجدت الطليعة في أكثر الأوقات ملاءمة للعمل، إننا نختزن في عقولنا وقلوبنا شحنات من النضال والتوجيه الهادف ولن نضن بهذه الشحنات متى توافرت عوامل الخلق الحقيقي، وفي تلك الآونة سنمضي بكل جوارحنا يملؤنا الإيمان. لا فرار ولا تقاعس ولا خذلان وإنما ثبات ومضاء وتصميم.

هكذا كانت البداية .. حملات مغرضة اتخذت لها أكثر من لون ومكان. وأحقاد سوداء مازالت صدور أصحابها تستعر وتغلي بها.

ومضت القافلة تسير تاركة خلفها الغبار يسد الطريق في وجه الأحقاد وأحط الأعمال. ولقد حرصنا على أن نواجه أعمال الهدم بروح أكثر تسامحا ونبلا. لم نكن لنواجه الحقد بالحقد والكراهية بالكراهية. وفي بعض الأحيان كنا لا نستطيع أن نتقبل التهجم من أناس لا يمتون إلى الشرف أو الفضيلة بصلة ما، وفي هذه الحالة أذكر أننا في حادثتين تناولنا هؤلاء بالنقد الجارح فلم يعودوا مرة أخرى إلى التهجم والتطاول على أقدار الناس.

ويبدو أن بعض الناس هذه الأيام يريد أن يمثل دور أولئك الأتباع والمأجورين ونحن لا يمكن أن نسكت عن هؤلاء فإن لدينا ما نفضح به دائما الأدعياء الذين يتردون بمسوح الرهبنة ويخفون تحتها أحط أنواع الشرور والآثام!!

في هذا الجو الخانق، البغيض، كان يتحتم علينا أن نعمل، أن نؤدي الدور الحقيقي للصحافة. وعملنا بشجاعة وثبات ولقد كان طريقنا واضحا. كنا على علم بحقيقة الأوضاع في بلادنا. كانت في صدورنا آمال جسام وأحلام كبار، كانت هذه الآمال والأحلام واضحة كالشمس، وكنا نعرف طريقنا إلى تحقيق هذه الآمال والأحلام. لم يكن الأمر يحتاج منا إلى طفرة أو عجلة لأن الطفرة أو العجلة لن تحقق لنا مغنما.

إن مجرد تسطير هذه الآمال والأحلام أو التعبير عنها في مقالات مسهبة لا يكفي إذا كانت الظروف والأحوال الحاضرة غير ملائمة لها. لقد كانت جميع خطواتنا متسقة مع إمكانيات شعبنا في هذه المنطقة. لم نكن بحاجة إلى الطفرة. إن الطفرة قد تضفي علينا صفات البطولة ولكنها بطولة مزيفة، بطولة ليس من ورائها كسب للصالح العام.

وأعتقد أننا قد نجحنا إلى حد ما في حمل المسئولين على أن يقيموا وزنا لكل ما ينشر في الصحيفة. وقد كان المسئولون ينظرون إلى ما تنشره الصحف باعتباره كلاما فاقد المسئولية لا يستحق النظر أو الاعتبار، ولكن الطليعة أثبتت للمسئولين ولغير المسئولين أنها تحترم الكلمة وأنها لا تشجع على الكتابة الخالية من المسئولية، وأنها مدركة للمرحلة التي تعيشها البلاد في هذه الآونة. ولقد استحقت الطليعة تقدير المخلصين والعقلاء لأنها أثبتت حسن تقديرها للملابسات ولم تكن لتندفع وراء الحماس الوقتي أو تنخدع بالسراب!!

والذين في قلوبهم مرض، يريدون للطليعة أن توجه شتائمها هنا وهناك وأن تنال من الناس بالباطل، لأن حرية الصحافة في مفهومهم أن تشتم وأن تتهم هذا بالرشوة وذاك بالخيانة. وينسون أن الحرية لها حدود وأن القانون سوف يتدخل لحماية المواطنين إذ ليس من السهل أن تقول لهذا إنك تقبل الرشوة أو إنك تأتي عملا ضارا بالمصلحة الوطنية لمجرد أن يرد هذا الاتهام في مقال لشخص يتخفى وراء اسم مجهول. إن هذا الاتهام لا يكفي إذا لم تكن هناك الأدلة والبراهين على صحته .

إننا لا ننكر سوء الأوضاع في بلادنا، ولكن إصلاح هذه الأوضاع أن يتم في يوم و ليلة. والذين أوتوا بصيرة ثاقبة ونظرة فاحصا يدركون مدى الصعوبات الجمة التي تعترض إصلاح هذه الأوضاع. وإن مثلنا من هذه الأوضاع مثل الطبيب من المريض الذي هذه المرض وأصابه بالإعياء. فإن استعادة المريض لصحته لن يتم في يوم أو يومين. كما إن حقن المريض بجرعات قوية من الدواء قد يكون السبب في التعجيل بموته. هكذا نحن بالنسبة للأوضاع في هذه البلاد، فإن الإصلاح يجب أن يتم على مراحل ويتسب متفاوتة، لأننا إذا أردنا الإصلاح الفوري قد تضعف إمكانياتنا وظروفنا عن تقبل هذا الإصلاح، لأن الإصلاح يجب أن تسبقه تهيئة تامة لإزالة كل العوائق عن الطريق.

وإننا من أكثر الناس تطلعا إلى إصلاح الأوضاع في هذه البلاد بل إننا على استعداد تام للتضحية من أجل تحقيق هذا الإصلاح. ولكن الإصلاح ليس مجرد أماني و كلام يقال، الإصلاح معاناة للظروف والملابسات التي نعيشها، الإصلاح تفهم للطريق التي ينبغي سلوكها وتقدير لكل المتاعب التي ينبغي خوضها. ليس الأمر مجرد برامج ومخططات على الورق ولكن الإصلاح شيء آخر غيرها تماما. ومن أجل هذا فنحن من أزهد الناس في الكلام الفارغ، الكلام الذي لا يصدر عن وعي بالمسئولية أو إخلاص لها.

ولعل الذين تابعوا سيرنا في الطليعة منذ اللحظة الأولى، يدركون الأثر الذي أحدثناه في أكثر من مجال على الرغم من أن الإمكانيات المادية والأدبية كانت تقف حجر عثرة في طريق انطلاقنا نحو مزيد من التقدم والازدهار.

وإني مطمئن إلى أن ما حققته الطليعة في مجال التنوير والتوجيه لا يمكن التقليل من شأنه. وأحسب أن أحدا لن يحقق في هذا الشأن بعض ما حققناه في عام وبعض عام. ونحن ماضون إلى الأمام لتحقيق المزيد من التقدم بوعي وإدراك حقيقيين. وسوف تلعب الطليعة في المستقبل دورها القيادي بنزاهة وصدق لتثبت أنها عمل أضخم وأكبر من كل الأقزام و الإمعات التي تريد أن تنال منها.

ويكفي أن الطليعة قد أثبتت للمواطنين أنها ليست عملا ارتجاليا ما يكاد يظهر حتى يختفي، إن لها صفات الديمومة والاستمرار. إن ما لا يمكن تحقيقه اليوم يمكن تحقيقه غدا وإن بناء الأمم ليس عملية سهلة، وإن لدينا من الأناة والصبر ما يجعلنا نتغلب بها على جميع الصعاب حتى نصل إلى ما نطمح إليه من الرقي.

التعليقات (0)