تأملات منتصف الطريق - يد ما سرقت ما تخاف

تأملات منتصف الطريق

(أربعون مقال ومقالة)

أ.د. عبد الله سعيد بن جسَّار الجعيدي

(2)

مسارات إلى الذات

" يد ما سرقت ما تخاف "

يختزن الناس في ذاكرتهم الجمعية الكثير من الحِكم والأمثلة والحكايات التي تحث على التروي قبل اتخاذ القرارات المهمة أو المصيرية (والراضة من الرحمن والعجلة من الشيطان). وبين النظرية والتطبيق تتداخل أمور كثيرة تحدد بموجبها مدى الاستجابة السليمة للمواقف الطارئة، ولهذا تتباين قدرات الأفراد كل بحسب سيكولوجيته الخاصة وتجاربه في الحياة، وكما يستفيد الإنسان من تجاربه يستفيد من تجارب الآخرين ولاسيما إذا صار طرفاً في مواقف مشتركة، من ذلك – على سبيل المثال - دخولي مع أستاذي الدكتور محمد سعيد داؤد في موقف كاد أن يكون له عواقب وخيمة...

نحن الآن في قاعة الصف كلية التربية بالمكلا (العام الجامعي 1986- 1987م المستوى الثاني/ قسم التاريخ) نستعد للاختبار الشهري الأول في مقرر تاريخ اليمن القديم. التنافس بين زملاء الدفعة على أشدّه، وبالنسبة (لكبار)المتنافسين كان كل زميل يطمح في أن يسجّل انطباعاً جيداً في أول اختبار عند أستاذ اشتهر بالدقة في التصحيح. .

بعد المعاينة العامة للصف شرع أستاذنا بتوزيع أوراق الأسئلة مع فراغات بين الأسئلة لكتابة الإجابات في الورقة نفسها، وهو أمر غير معتاد في الاختبارات الشهرية. المهم انشغل كل طالب بحاله ولا مجال للغش البتة فقد كانت الإجراءات العقابية صارمة، وفي تلك اللحظات أدى أستاذنا دور المراقب اليقظ من خلال تمشيطه لزوايا الصف المختلفة، وفي أثناء هذه الصولات والجولات وبدون مقدمات ضغط براحة يده على كتفي برفق فظننت أنه ربما يعيد توازنه جراء الحركة المستمرة. ثم أخذ دورة جديدة حول الصف، وضغط بإبهامه على كتفي بحركة أقوى من سابقتها فالتفت إليه لكنه لم يقل شيئًا واكتفى بنظرة خاطفة، وانغمست في ورقة الإجابة مع تخمينات داخلية لا علاقة لها بجريمة الغش من قريب أو من بعيد. في الجولة الثالثة همس في أذني قائلًا: " ألا تريد إغلاق المذكرة؟!" فتنبهت.... فإذا بعناصر (الجريمة) واضحة وكان من حقه وبضمير مرتاح أن يسجل حالة الغش ويطرد (الطالب)، فالدليل لا يقبل الشك، وبسرعة أغلقت مذكرة المقرر الموجودة داخل الميز التي سهوت عن إغلاقها، واستكملت على عجل إجابة بقية الأسئلة وغادرت الصف. كنت في حالة قصوى من القلق والتوتر ليس فقط من احتمال رفض ورقة الإجابة بل كان الخوف - وهو الأهم - على (شرفي العلمي)؛ لهذا أعربت عند تسليمي ورقة الإجابة عن استعدادي للاختبار مرة أخرى في ما تبقى من وقت ولكن الأستاذ هوّن من روعي وقال : " لم يراودني الشك لأنك لم تهتز عند الضغطتين السابقتين"، وحتى نعطي للمشهد أبعاداً أخرى فإن هناك معطيات ربما ساعدت على التأني، منها تفاعلي في الصف في أثناء المحاضرات فكان هذا - والله أعلم - نقطة مساعدة، وعلى أية حال فإن الموقف ترك أثره الطيب في نفسي، وزاد من احترامي لأستاذي وتعلمت منه درسًا حيًا في أهمية (الراضة) والتروي قبل اتخاذ القرارات أو الحكم على الناس.

كان البديل (الافتراضي) إذا ضُبِطت الحالة وأُعلنت هو تحملي شبح تهمة من الصعوبة بمكان تجاوزها، أو تأكيد البراءة منها، فعيون الناس واحدة، ولكنها تختلف في التفسير باختلاف النوايا التي في الصدور، وبتنوع المشاعر التي في القلوب.

التعليقات (0)