معالم التاريخ اليمني القديم وحضارته
أ.د. عبدالله أبوالغيث
ثامناً: سقوط الدولة اليمنية القديمة تحت نير الاحتلال:
بعد انقلاب يوسف أسأر يثأر (ذي نواس) على الملك الحميري السابق له الموالي للأحباش معدي كرب يعفر كما ذكرنا عند حديثنا عن دولة حمير نعرف من نقوش الملك يوسف أنه شن حملات عسكرية ضد الحامية الحبشية التي صارت تتمركز في العاصمة الحميرية ظفار. وتذكر المصادر العربية والسريانية والحبشية والبيزنطية أنه قام بالتنكيل بمواطنيه المعتنقين للديانة المسيحية.
وقد دار خلاف بين الدارسين حول اعتناق الملك الحميري يوسف للديانة اليهودية من عدمه، وكذلك سبب تنكيله بالنصارى، هل بسبب ديانتهم أم لكونه نظر لهم كعملاء لدولة أكسوم الحبشية ومن ورائها الدولة البيزنطية. وبغض النظر عن ذلك الاختلاف فما يهمنا أن تنكيل الملك يوسف قد أفضى إلى إرسال الأحباش وبعون بيزنطي حملة عسكرية انتهت بالقضاء على الدولة الحميرية في عام 525م.
وحرص الأحباش في بداية الأمر على تنصيب تابع يمني موالٍ لهم ليحكم اليمن تحت سيطرتهم (سميفع أشوع) الذي تلقب بلقب التبابعة الطويل (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمانة وأعرابهم في طود وتهامة). لكن في واقع الحال كانت السلطة الحقيقية في يد القادة العسكريين الأحباش، وكان أبرزهم حسبما تذكر المصادر العربية هما إرياط وأبرهة.
وبعد قرابة عشر سنوات من تولي سميفع أشوع ثار عليه أبرهة، وأعلن نفسه نائبا للملك الأكسومي في اليمن مع تلقبه بلقب التبابعة الطويل، وكان ذلك بعد تخلصه من القائد الحبشي إرياط، ونجد أبرهة في نقوشه المتأخرة يسقط نيابته للملك الأكسومي ويكتفي بوضع لقبه الملكي.
وكان ذلك بمثابة إعلان استقلاله باليمن كمملكة خاصة به وبأولاده من بعده. وتم ذلك بتحريض من البيزنطيين نظراً لكون أبرهة كان يعتنق النصرانية على مذهبهم وليس على مذهب الدولة الأكسومية، وذلك لأنه في صغره كان عبداً لتاجرٍ بيزنطي في مدينة عدوليس الحبشية الساحلية. وكان البيزنطيون يطمعون باستخدام أبرهة لتحجيم نفوذ خصومهم الفرس في بلاد العرب.
وقد قامت الثورات اليمنية ضد أبرهة الحبشي وحكمه، كان أبرزها ثورة تزعمها يزيد بن كبشة الكندي، لكن تلك الثورات توقفت بسبب تهدم سد مارب، حيث هب اليمنيون إلى جانب أبرهة الحبشي لإصلاح السد وإعادة إعماره. وتمت عملية افتتاح أبرهة لإصلاح السد في حفل كبير حضرته وفود من أكسوم وبيزنطة وفارس والإمارتين العربيتيين اللخمية والغسانية.
وبعد أن استقرت لأبرهة الأمور في اليمن بدأ بإرسال حملاته صوب وسط جزيرة العرب، حيث توجهت إحداها صوب نجد، اصطدم خلالها بالمنذر بن ماء السماء اللخمي، وانتهت بعقد صلح معه. أما حملته الأشهر فقد استهدفت بلاد الحجاز خصوصا مكة، وبرغم سذاجة السبب الذي سوقته لنا المصادر العربية لحملته تلك، بقولها إن أعربياً تبول في كنيسة بناها أبرهة في صنعاء فأراد أبرهة الانتقام بهدم الكعبة، إلا أن أبرهة كان في حقيقة الأمر يهدف للسيطرة على الحجاز لكي تتواصل اليمن الواقعة تحت سيطرته ببلاد الشام الخاضعة لسيطرة البيزنطيين وحلفائهم الغساسنة.
وكان أبرهة وحلفائه البيزنطيين يهدفون من وراء ذلك الهيمنة المطلقة على طريق البحر الأحمر التجاري وظهيره البري الذي يمر في غرب جزيرة العرب، مقابل سيطرة منافسيهم الفرس على طريق الحرير، إلى جانب رغبة أبرهة بانتزاع تجارة الإيلاف من أيدي القرشيين.
ونعلم جميعا النهاية المأساوية التي انتهت بها حملة أبرهة على مكة بتدخل إلهي، وهو ما يحكيه لنا القرآن الكريم في سورة الفيل، حيث عاد أبرهة إلى صنعاء جريحاً وتوفى على إثرها. وخلفه ابنه يكسوم (من أم حبشيه)، ثم ابنه مسروق ابن أبرهة (من أم يمنية)، وكان الاثنان وفقا للمصادر العربية شديدين على أهل اليمن.
وفي عهد مسروق حدثت ثورة سيف بن ذي يزن الذي استعان بالفرس من أجل طرد الأحباش من اليمن، حيث رحب الفرس بذلك ليكون لهم موطئ قدم في اليمن بموقعها الاستراتيجي على طرق التجارة العالمية، وهي نفس الأسباب التي دفعت بيزنطة لدعم احتلال الأحباش لليمن. وتحكي المصادر بأن كسرى الفرس دعم سيف بن ذي يزن بست مئة سجين، ويرفض بعض المؤرخين تلك الرواية ويذكرون أن الدعم الفارسي بلغ ستة آلاف جندي وليس ست مئة.
وفي كلا الحالتين ما كان لذلك العدد أن يحرر اليمن من الأحباش، خصوصا أن المصادر تذكر بأن الملك مسروق بن أبرهة قد واجههم بجيش قوامه مئة ألف مقاتل. وذلك يعني بأن الدعم الفارسي قد حرك القوى الكامنة لليمنيين، حيث انضموا إلى سيف بن ذي يزن ابتداءً بمناطق مشرق اليمن في حضرموت، وظل عددهم يتكاثر بمن انضم إليهم من أبناء بقية مناطق اليمن كلما اقتربوا من صنعاء التي اتخذها الأحباش عاصمة لهم.
وبعد مقتل مسروق الحبشي وهزيمة جيشة وطرد الأحباش من اليمن تم تنصيب سيف بن ذي يزن ملكاً على اليمن مع اعترافه بالولاء للفرس ودفع الجزية لهم، وتقاطرت الوفود العربية لتهنئته بمن فيهم كبير مكة عبد المطلب بن هاشم.
لكن الملك سيف سرعان ما قُتل على يد بعض حراسه الأحباش (من رماة الحراب) الذين استبقاهم لديه، وقد اختلفت التفسيرات حول دوافع قتلهم له: هل كانت دوافع شخصية، أم بتحريض من الدولة الأكسومية بغرض الانتقام، أم أنها كانت بتحريض من الفُرس أنفسهم؟ ومن يقولون أن عملية مقتل الملك سيف تمت لصالح الفرس يعتمدون على كونهم المستفيدين من مقتله، بدليل تقاعسهم عن تنصيب ملكاً آخر لليمن بديلا عنه، ومسارعتهم ﻹعلان اليمن ولاية فارسية.
تجدر الإشارة هنا أن السيطرة الفارسية في اليمن ظلت تتقاصر بمرور الزمن لصالح زعماء القبائل اليمنيين، حتى أنه عند ظهور الإسلام لم يكن الفرس يسيطرون إلا على مدينتي صنعاء وعدن والمناطق القريبة منهما. وبعد إسلام آخر والي فارسي على اليمن (باذان) أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ما تحت يده، وولى غيره على بقية مناطق اليمن.. وتلك قصة أخرى تدخل في ثنايا التاريخ الإسلامي لليمن.
المحور الثاني: التاريخ الحضاري[1]
سنسلط الضوء في هذا المحور على بعض جوانب الحضارة اليمنية القديمة التي سادت في العصر السابق للإسلام، والتي مثلت واحدة من أرقى الحضارات في العالم القديم. وكان لها بطبيعة الحال تأثير وتأثر مع تلك الحضارات التي عاصرتها. وإذا كنا في الجانب السياسي لتاريخ اليمن القديم قد تحدثنا عن تعدد الكيانات السياسية وتعاصرها؛ إلا أنه فيما يخص الجانب الحضاري سنلاحظ واحدية تلك الحضارة، مع اختلاف في بعض التفاصيل هنا وهناك، تماماً مثل ما صار عليه الحال لاحقاً في عصور التاريخ اليمنية الإسلامية والحديثة.
أولا: اللغة والكتابة اليمنية القديمة:
تكلم العرب الجنوبيون (اليمنيون القدماء) لغة أطلق عليها المختصون تسمية اللغة العربية الجنوبية أو اليمنية القديمة، وتسميها كتب أهل الأخبار ومعها عامة الناس في عصرنا الحالي باللغة الحميرية وهي تسمية طغت عليها كون الدولة الحميرية كانت آخر الدول اليمنية القديمة ظهوراً، وتمكنت من حكم اليمن منفردة بعد أن تداعت الدول الأخرى التي كانت سائدة على الأرض اليمنية، مع العلم أن اللغة اليمنية القديمة بكتابتها المسندية كانت سائدة في اليمن قبل ظهور الحميريين بقرون عديدة.
وقد اختلف الدارسون حول ما إذا كان هناك في اليمن القديم لغات عديدة، أم لهجات في إطار لغة واحدة. والرأي الراجح أنها كانت لهجات ضمن لغة واحدة، كون النقوش المسندية لم تمدنا بأدلة تثبت بأن اليمنيين القدماء بدولهم المتعددة كانوا يحتاجون لمترجمين فيما بينهم، إلى جانب أن الاختلافات بين تلك اللهجات هي اختلافات طفيفة وفقا لما يقرره الدارسون المتخصصون في اللغة اليمنية القديمة.
وتمكن الدارسون المحدثون - من واقع النقوش المسندية التي عُثر عليها في اليمن - الحديث عن أربع لهجات رئيسية هي: السبئية والقتبانية والحضرمية والمعينية، إلى جانب لهجات أخرى أقل انتشاراً.
وقد استخدم اليمنيون القدماء كتابة أطلقوا عليها تسمية (المسند)، وقد دار خلاف بين الدارسين حول زمن ظهور تلك الكتابة، وتعيدها أرجح الآراء إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، لتكون بذلك واحدة من أقدم الكتابات الأبجدية التي عرفتها البشرية، إلى جانب الكتابات التي عرفت في بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء.
ويذهب بعض الدارسين للقول إن كتابة المسند تم اشتقاقها من بعض الكتابات الأبجدية التي سادت في بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء كوننا لم نعثر على البدايات الأولى لتلك الكتابة في جنوب جزيرة العرب، لكنهم أيضاً لم يقدموا لنا بدايات مقنعة لتلك الكتابات خارج اليمن، إلى جانب أن تلك الكتابات التي يشيرون إليها كانت تتكون من 22 حرفا، بينما الأبجدية المسندية تتكون من 29 حرفا، وتتكامل تلك الحروف فيما بينها بتناسق كامل، من غير أن نلاحظ أي اختلاف فيما بينها، وهو ما يدل على أن ابتكارها تم في لحظة واحدة، ولم يتم نقل بعضها وإضافة البعض الآخر في وقت لاحق.
أما القول بعدم عثورنا على البدايات الأولى لتلك الكتابة فمردود عليه، لأننا حتى الآن لم نصل في تنقيباتنا الأثرية إلى العصور الأولى للحضارة اليمنية القديمة، بل إن حواضر الدول اليمنية القديمة لم تشهد حتى الآن تنقيبات جادة تصل إلى بدايات الاستيطان الأولى فيها لنقول بأننا لم نعثر فيها على البدايات الأولى لتلك الكتابة.
وقد دار خلاف آخر حول أياً من الدول اليمنية القديمة عرفت الكتابة المسندية في أرجائها أولاً، ولا زال الأمر حتى الآن يدور في إطار التخمينات أكثر منها حقائق علمية، وفي اعتقادي أننا لن نتمكن من الجزم حول ذلك الأمر مالم نصل للبدايات الأولى لتلك الكتابة.
ورغم أن الدراسات الخاصة باللغة اليمنية القديمة تضرب بجذورها إلى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي إلا أننا إلى الآن لا نعرف كيف كانت تسمية الحروف المسندية لدى أصحابها، ما يضطر الدارسين في عصرنا الراهن لقياسها على لغات سامية أخرى مثل العربية والعبرية، ومثله عدم معرفة كيفية ترتيب الحروف المسندية، وإن كانت بعض النقوش الخشبية المكتوبة بالخط الشعبي لكتابة المسند (خط الزبور) توحي بذلك الترتيب وفقا لما ذكره بعض الباحثين.
ويعتقد أن اللغة اليمنية القديمة بدأت بالانحسار مع مطلع العصور الميلادية، مفسحة الطريق لصالح اللغة العربية الشمالية (اللغة الفصحى التي نتكلم بها اليوم) حتى أن الإسلام عندما ظهر في مطلع القرن السابع الميلادي كانت العربية الفصحى قد صارت لغة مفهومة لدى اليمنيين، ولم تحدثنا المصادر أن اليمنيين الذين توافدوا على المدينة المنورة ليعلنوا إسلامهم قد احتاجوا لمترجمين.
أما كتابة المسند فقد كانت النقوش التي خلفها لنا أبرهة الحبشي في منتصف القرن السادس الميلادي هي آخر النقوش التي عثرنا عليها حتى الآن، علما أن النقوش المسندية المتأخرة كان يشوبها العديد من الأخطاء الكتابية، ما يدل أنها قد صارت خلال تلك الفترة كتابة رسمية محصورة ولم تعد تمثل الكتابة الشائعة التي يدوّن بها عامة الناس شؤونهم.
تجدر الاشارة أن الفروقات تكاد لا تُذكر بين حروف الكتابة المسندية التي تعود إلى بداية ظهور تلك الكتابة في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد وبين آخر نقوش تلك الكتابة التي تعود إلى القرن السادس الميلادي.. اللهم إلا في طريقة الكتابة وطريقة نقشها على الأحجار، إلى جانب بعض التجميلات التي ميزت حروف الكتابة المسندية خلال العصر الميلادي، بعكس ما كانت عليه في عصر ما قبل الميلاد.
نشير أخيراً أن هناك لغات خارج اليمن قد اشتقت الخطوط التي كتبت بها من الحروف المسندية اليمنية القديمة، مثل اللغة الجعزية في بلاد الحبشة واللغات المتفرعة عنها المستمرة إلى اليوم كالأمهرية والتجرينية. وكذلك بعض شعوب شمال الجزيرة العربية في العصر القديم كتبوا لغاتهم بأبجدية اشتقوها من كتابة المسند مثل اللحيانيون والثموديون والصفويون.
ثانيا: الديانة اليمنية قبل الإسلام:
منذ أقدم النقوش المسندية التي عثرنا عليها في جنوب جزيرة العرب (اليمن القديم) يتوارد لنا في تلك النقوش ذكر لمعبودات متعددة، بصفتها راعية لتحركات الحكام في حروبهم العسكرية وصراعاتهم السياسية، وملجأ للمواطنين العاديين طلباً لأن تحميهم تلك المعبودات من الأخطار وتشفيهم من الأمراض، وتمن عليهم بالخيرات مثل الأمطار والأولاد حسبما كانوا يعتقدون فيها...الخ. لذلك تقربوا إليها بالقرابين، ومنحوها الهبات والنذور، بما فيها عبيدهم وإمائهم وبعض أولادهم ليكونوا خداماً لتلك المعبودات في معابدها.
ويتفق الدارسون أن تلك المعبودات التي عرفها الإنسان اليمني القديم كانت تمثل عبادة كوكبية، تعكس الأجرام الفلكية الكبرى كما تتبدى لهم في السماء (القمر، الشمس، كوكب الزهرة).
وكانت المعبودات القمرية هي أشهر تلك المعبودات، حيث تمثل لدولهم وكياناتهم السياسية المعبود الوطني الذي تتحرك باسمه الدولة أو القبيلة، وهو في سبأ (إل مقه)، وفي قتبان (عم)، وفي حضرموت (سين)، وفي معين وأوسان (ود) ...إلخ، ونفهم من بعض النقوش أن شعب كل دولة كانوا يعتبرون أنفسهم أولاداً لمعبودهم الوطني (القمري) حيث كانت قبائل الدولة القتبانية على سبيل المثال تصف نفسها بأنهم (أولاد عم)، والبنوة هنا غالبا هي بنوة انتماء وانتساب وليس اعتقاداً بأن مواطني كل دولة كانوا أبناء فعليين لمعبوداتهم.
أما المعبودات الشمسية فيعتقد أنها كانت تتعدد لديهم بتعدد الفصلين الرئيسيين في السنة (فصل البرودة، وفصل الحرارة)، حيث كانت تُعرف في سبأ مثلا ب(ذات بعدان) و(ذات حميم)، بمعنى وصفها بالبعيدة (في فصل البرودة) وبالحامية (في فصل الحرارة) وتتكرر تلك الثنائية في بقية الدول اليمنية القديمة.
أما كوكب نجم الزهرة فقد عُرف المعبود المنتمي إليه في كل الدول اليمنية القديمة باسم (عثتر)، وأحيانا كان يتم اختصار الاسم إلى عت أو عثت، أو تخفف ثائه إلى سين فيقال عستر.
وتذهب بعض الآراء أن تلك المعبودات كانت تمثل عائلة واحدة، يمثل فيها القمر الأب، والشمس الأم، ونجمة كوكب الزهرة الابن. لكن في اعتقادي هناك ملاحظات تجعلنا نضع ذلك الرأي في خانة الاحتمال وليس اليقين، لأن المعبود (عثتر) كان يتقدم المعبودات القمرية والشمسية عند التضرعات، فكيف للابن أن يتقدم على والديه في مجتمع شرقي عرف باحترام الأبوين وحفظ مكانتهما. وكذلك لماذا صار عثتر هو الابن الوحيد لكل تلك المعبودات القمرية والشمسية التي تتعدد بتعدد الدول والكيانات السياسية في اليمن القديم، ولم نجد لكل معبودين (أبوين) أولادهم أو ولدهم الخاص بهما؟!
وفي الواقع لا يمكننا البت بشكل قطعي حول ذلك الموضوع، كوننا في اليمن القديم مع الأسف الشديد نفتقر حتى الآن للقصص الدينية التي عرفت على سبيل المثال في المجتمعات المصرية والعراقية واليونانية القديمة، التي نفهم منها طبيعة العلاقة وصلات القرابة التي كانت تربط بين المعبودات في تلك المجتمعات، بعكس اليمن القديم التي تزخر نقوشه بأسماء لمعبودات كثيرة من غير أن نفهم منها بشكل واضح طبيعة العلاقة وصلات القرابة التي كانت تربط بين تلك المعبودات.
وقد أقام الإنسان اليمني القديم معابد كثيرة لمعبوداته، كثير منها تميز بالفخامة مثل معبد أوام في مارب، وقام على تلك المعابد كهنة تولوا مهام الإشراف عليها وعلى أملاكها، وقاموا بدور الوسيط بين المعبودات وعُبّادها القادمين لزيارتها من مختلف أرجاء الدولة أو القبيلة التي تقدس هذا المعبود أو ذاك.
لذلك كانت المعابد الرئيسية تقام خارج أسوار المدن ليتسنى لها استيعاب كل زوارها، خصوصا في المواسم الدينية التي تكون فيها تلك المعابد محط لزوارها، وكذلك في مواسم الحج الذي يتضح من بعض النقوش أنه كان شعيرة معروفة من شعائر الديانة اليمنية القديمة.
وعلى ذكر الشعائر المرتبطة بالمعبودات الكوكبية في اليمن القديم نفهم من بعض النقوش أن هناك محرمات كان على من يعبدون تلك المعبودات اجتنابها، ويتوجب عليهم التكفير في حالة إتيانهم لها، وينطبق ذلك على الرجال والنساء على حد سواء.. مثل مرور الإنسان في المعبد وهو غير طاهر (على جنابة) وكذلك ممارسة العلاقة الحميمية بين الزوجين أثناء فترة الحج أو أثناء نفاس المرأة وحيضها.
ونفهم من محتويات بعض المقابر اليمنية القديمة التي تم العثور عليها أن الإنسان اليمني القديم كان يؤمن بحياة البعث بعد الموت، بدليل بعض الأثاث الجنائزي الذي كان يدفن مع المتوفى، ويشمل بعض الأدوات المنزلية وأدوات الزينة والأسلحة، وأحيانا مصوغات ذهبية ثمينة حسبما تناقل المواطنين عن بعض المقابر التي عثر عليها مؤخراً وتم نهبها مع الأسف الشديد. ولعل إيمانهم بالحياة الأخرى هو الذي جعلهم يحنطون جثث بعض زعمائهم وفقا لما تم العثور عليه من جثث محنطة.
استمرت تلك الديانة الكوكبية سائدة في اليمن (وفقا لما نملكه من نقوش) منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد حتى أواخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع الميلادي، حيث بدأ الأمر يتغير منذ ذلك التاريخ، فقد ترافقت الوحدة السياسية التي فرضها الحميريون على اليمن القديم بظهور ديانات توحيدية.
وهناك من يرى أن الديانة اليمنية الكوكبية كانت منبثقة في الأصل عن ديانة توحيدية، بدليل تكرار اسم (إل/إيل) في اليمن القديم ودخوله في مسميات الملوك والأشخاص في مختلف الدول اليمنية القديمة (كرب إيل، يدع إيل، إل يفع، رب إل.... الخ) مما يدل على أن اليمنيين القدماء كانوا يعبدون (إل) وإلا لما تسموا به، وإل هي التسمية السامية لخالق الأرض والسماء الله سبحانه وتعالى، لذلك ارتبطت أسماء الملائكة به (جبرائيل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل ....الخ).
وإذا تأملنا في اسم المعبود (إل مقه) سنجد أن اسم الإله (إل) يدخل فيه، ولذلك من الخطأ كتابة اسمه بالطريقة الشائعة بين الدارسين (المقه) حيث يبدو اسم (إل) وكأنه مجرد أداة تعريف لاسم المعبود (مقه)، وهو أمر غير صحيح لأن اليمنيين القدماء كانت أداة التعريف في كتابتهم هي نون تلحق في آخر الاسم وليس ألف ولام.
ولعل ذلك هو ما جعل الحميريون بعد فرض سيطرتهم على كل اليمن القديم -كما ذكرنا أعلاه- يقدمون المعبود (إل مقه) على كل المعبودات الكوكبية الأخرى، وكان ذلك قبل أن تختفي كل تلك المعبودات وتظهر بدلاً عنها معبودات توحيدية، مثل الرحمن، والإله الذي له السماوات والأرض.
وقد اعتقد البعض خطأً أن المعبود (ذي سماوي) هو معبود توحيدي، كون اسمه يعني الذي في السماء، إلى جانب انتشار معابده في أكثر العواصم والحواضر اليمنية القديمة، لكن اتضح بعد ذلك أن المعبود (ذي سماوي) ما هو إلا معبود قمري، وهو معبود خاص بقبيلة أمير في بلاد الجوف، أما وجود معابده في بقية المدن الرئيسية في اليمن القديم فيعود إلى كون قبيلة أمير كانوا جَمّالة (أصحاب جمال) يجعلونها في خدمة القوافل التجاربة، وهو ما جعلهم ينتشرون كجاليات في كل المدن والمراكز التي كانت تحظى بأهمية تجارية.
أما الرحمن فقد تمت عبادته في اليمن القديم باعتباره معبودا سماوياً، حيث تعدد ذكره في نقوش تخص اليهود والنصارى في اليمن القديم، ونقوش أخرى لا تتضح الهوية الدينية لأصحابها، ما جعل البعض يعتقد أنها تخص بقايا أتباع الديانة الحنيفية في اليمن (ديانة نبي الله إبراهيم).
وقد ساد الإشكال الخاص بالرحمن في بداية ظهور الإسلام، حيث وُصف مدعو النبوة بهذا الاسم، فقيل لمسيلمة الحنفي أنه رحمن اليمامة وللأسود العنسي أنه رحمن اليمن، بل وأحدثت الصفة المميزة التي يذكر بها (الرحمن) دون باقي الصفات الإلهية في القرآن الكريم إلى جانب اسم (الله) لبس لدى كفار قريش، واعتقدوا أن المسلمين يعبدون إلهين اثنين (الله، والرحمن) فرد عليهم القرآن الكريم بقوله {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.
وعندما دخل الإسلام إلى اليمن في مطلع القرن السابع الميلادي كانت المعبودات الكوكبية قد اختفت من اليمن، وكان سكانه قد صارا بعضهم يعتنق الديانتين السماويتين اليهودية والمسيحية التي بدأت تتسرب إلى اليمن منذ القرن الرابع الميلادي بشكل خاص، وبعضهم حسبما تذكر لنا المصادر العربية الإسلامية صاروا يعبدون أصناماً وثنية شبيهة بالأصنام التي انتشرت في الحجاز ونجد، مثل صنم (يعوق) بهمدان، وصنم (يغوث) بمذحج، وصنم (نسر) في حميّر، وصنم (ذريح) في كندة، وصنم (مرحب) في حضرموت، وصنم (المنطبق) في تهامة. وقد دخل اليمنيون في دين الله أفواجا، وانتقلوا لمرحلة جديدة، صار الإسلام فيها هو الدين الغالب في اليمن.
[1] تم إنزال المحور الحضاري من هذه الخلاصة كمقالة صحفية بعنوان (إشراقات زاهرة من جوانب الحضارة اليمنية القديمة)، نشرت في موقع التغيير نت الإلكتروني، بتاريخ 10 يونيو 2019م.