سلسلة حلقات برنامج النقاش الرمضاني التاريخي
الحلقة الرابعة والعشرون:
24 رمضان 1441ھـ / 17 مايو 2020م
الغـزو الفــكري وأثره على الأمـة الإسلامية
رئيس الجلسة:
د. نشـوان الوجيـه
د. ريـاض الصـفواني
رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وتلامذتهم ومن تبنى فكرهم في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات العشرين لا يخفون إعجابهم بالنظم السياسية والاقتصادية والتقدم الثقافي السائد يوم ذاك في أوروبا ورغم تأثرهم بما شاهدوه من مدنية حديثة لكنهم مع ذلك لم يكونوا في صف التيار المتغرب، فقد دعوا إلى الأخذ بأسباب النهوض الغربي والاستفادة من الغرب المتقدم لإحداث نهوض في الحياة العربية بجوانبها المختلفة في محاولة لمحاكاة قوة الغرب والتعامل معه بشيء من الندية وبمنطق القوة (الناعمة) دون أن تفقد الأمة هويتها وخصوصيتها الثقافية وشخصيتها المستقلة، بخلاف التيار الذي يمم وجهه شطر الغرب في كل جوانبه دون تمحيص وفرز وتدقيق فنقل من حضارة الغرب قشورها ومظاهرها المادية الزائفة وأراد استزراعها في تربة بيئته المغايرة هويةً وأصالة وتاريخاً وديناً، ظناً منه أن هذه هي حضارة الغرب التي بها نهض وعلى أساسها امتلك عناصر القوة والسيطرة على موطنه ومحيطه بصفة خاصة ومواطن غيره في صيغته الاستعمارية بصفة عامة.
د. أحـمد العرامـي
وحسن العطار ومحمد عياد الطنطاوي تلميذه وزميل الطهطاوي الذي قضى عشرون عاماً في روسيا يدرس في جامعة "بطرس بورغ"، وله أكبر الأثر على الاستشراق الروسي وله العديد من المؤلفات منها "تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا" ويشبه كتاب الطهطاوي تلخيص "الابريز في وصف باريز" .. ونجد شيخ الأزهر حسن العطار عمل على الأخذ بالمعارف الأوربية بينما شيخ الأزهر الذي تولى بعده بعقدين من الزمان إبراهيم الباجوزي رفض الأخذ بالمعارف الأوربية .. أما خير الدين التونسي صاحب "أقوم المسالك" فقد أكد على الأخذ بالنظم الأوروبية السياسية والتعليمية مع الحفاظ على تعاليم الدين الإسلامي وسعى مدحت باشا إلى الإصلاح معتمداً على الاستفادة من التطور الأوروبي .. وكانت صدمة العالم الإسلامي عند الحملة الفرنسية على مصر عام1798م وكان السؤال كيف وصل الفرنجة إلى هذا المستوى من القوة .. وفي القرن التاسع عشر الميلادي، سأل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا لماذا تأخر المسلمين، وما السبيل لنهضتهم وهو السؤال الذي طرحه مالك بن نبي ومازال مطروح.
و قد شكلت قضايا الهوية والانتماء والعلاقة بين العروبة والإسلام والعلاقة بين الأصالة والمعاصرة من القرن التاسع عشر وحتى الآن جدل لم نصل لاتفاق عليه بل أنها أهم أسباب ما نمر به من أزمات.
أ.بكيـل الكليـبي
أضف إلى ذلك حسب قول الجابري ان هناك إشكالية بين الحداثة والتراث.
د. ريـاض الصـفواني
الإشكالية العويصة تكمن في تطرف الحداثيون والتراثيون، فشكلوا طرفي نقيض، فالحداثي يصف التراثي بالتخلف والتراثي يصف الحداثي بالمتغرب، ولم يلتقوا عند نقطة وسط، فليس كل التراث فاسد متخلف وليس في كل الحداثة تغريب وانفصال عن الهوية الخاصة والثقافة التراثية.
أ. جميـل الأشـول
صحيح.
ليس كل ما يأتي من الغرب شر محض أو خير محض .. لكن للأسف أن الناقلين لنا من أبناء جلدتنا الثقافة الغربية، لم ينقلوا في الغالب إلا الشر المحض، و العادات والتقاليد والهوية الغربية، و قاموا بإسقاطها على مجتمعنا أو هكذا أرادوا .. و لذلك لفظتهم مجمعاتهم.. لأنهم أصبحوا بنظرهم غرباء عن مجمعاتهم .. ومن هنا أصبح التغريب والمغربين ينظر لهم نظرة ريب وشك .. وكان الأولى أنهم يعودوا لما أرسلوا له وهو العلم .. الذي تفتقدوه شعوبهم .. لكن عادوا بالهوية الغربية فقط .. وأصبحوا مناضلين و وكلاء لتطبيقها والدفاع عنها .. وتركوا العلم هناك لأهله.
*أما بخصوص الحداثيون والتراثيون .. حياك الله أيها العزيز دكتور رياض .
التراثيون هم من يحملوا الهوية بمختلف اتجاهاتها.. من يطلق عليهم التراثيون .. هم عبق الماضي وأمل المستقبل .. لأن لهم ارتباطات بالأرض والعادات والتقاليد .. التراثيون هم من يحافظوا على من انا ؟ .. وما كان ماضي؟ .. وكيف أعيد مجدي وحضارتي؟ .. ولا أخسر نفسي.
التراث هو ارثنا من الدين والتاريخ والوطن .. و أجمل كلمة في المتغربين ما نقلها الدكتور زكي مبارك .. صديق الدكتور طه حسين ورفيق دربه في باريس .. ينقل كلاماً من ذهب يقول:" لما قدم طه حسين أطروحته لمشرفه المستشرق دور كايم .. فلما فرغ من قراءتها قال: بضاعتنا ردت إلينا ".
د. اريـكا احـمد صالح
لو نلاحظ أن الدول ذات التاريخ والحضارة وخاصة في البلاد العربية والإسلامية تعاني مما يسمى الثقل التاريخي، حضارات قادة العالم القديم في الشرق والغرب، اليوم تتعرض للغزو الفكر والذي في معظمه سلبي، يريد فيه الغرب طمس الهوية وضياع الانتماء للأرض والتاريخ ..أخي من لا يملك تاريخ وتراث الآن يشتري التاريخ، وهذا ما يحصل مع تلك الدويلات القزمية .. لله الحمد لدينا تراث نفتخر فيه رغم كل المعاناة في الحفاظ عليه.
د. أحـمد العرامـي
طالما "طه حسين" و "زكي مبارك" و "قاسم امين" يمثلون التيار التغريبي، فمن هم أعلام التيار التراثي؟ وهل التراث من الدين وله قدسيته؟
عند مناقشة قضايا التراث من المهم الفصل بين الشريعة الإسلامية والتاريخ الإسلامي لأن الخلط بين التاريخ والشريعة يؤدي إلى تحويل التاريخ إلى دين .. التعامل مع التراث باعتباره ميدان معرفة بعيداً عن التقديس او التدنيس.
د. ريـاض الصـفواني
أخي جميل.
لو أعدت النظر أو دققت قليلاً في تعليقي أعلاه، لن تجد فيه رأيي الشخصي المعيب في التراث مع أن لكل إنسان رأيه وموقفه الذي يخصه وحده ولا يعيبه أو يفرضه على الآخرين .. وستجد أني أنقل وجهة نظر طرفين متناقضين، وصفتهما كما وصفهما كتاب غيري بالمتطرفين في الحالتين، ومعنى هذا أن هناك معتدل ووسطي في مقابل متشدد أو متطرف كصفة تنسحب على كل حالة بشرية وليست مخصوصة أو مختزلة في جنس بشري بعينه.
د. أحـمد العرامـي
الاشكالية المنهجية تكمن في تعامل الباحثين مع وقائع التاريخ الإسلامي بانتقائية فيركز البعض على أفضل ما في تاريخ المسلمين فيما يركز الاتجاه الآخر على أسوأ الحوادث ويعممونها.
أ. جميـل الأشـول
أهلا وسهلا بالدكتور احمد.
أولاً، لست من الذي يصنف الناس .. وإنما الذين تكلموا في التغريب والمغربين هم من ذكروا أعلام التغريب طه حسين، وعلي عبد الرازق، و زكي مبارك، قبل أن يتراجع عن أقواله ويصنف كتابه "عذراً أيها الغزالي" .. لن أقول ذكر في كتاب كذا أو كذا .. بل أختار أي كتاب تكلم عن التغريب بالوطن العربي .. وأنظر هل تم ذكر هؤلاء من رموز المتغربين، أم أنا افتريت عليهم .. و وصفتهم بما ليس بهم؟
ثانياً، دكتور أحمد هل التراث الديني الذي نقل لنا الدين .. هل هو من التراث أم لا؟ .. فالتراث كما تعلم كلمة جامعة للكثير من المجالات المختلفة.
د. أحـمد العرامـي
التراث الديني في الكتب والمشكلة ليست فيه بل محاولة تأويله وفق الهوى لتقديس قضية معينة مثل الخلافة وجعلها الإسلام.
أ. جميـل الأشـول
صحيح. وأنا أدافع عن التي في الكتب مجردة من الأهواء .. أما من يحورها ويبدلها عن مرادها هذا أمر آخر.
ا. جميـل الأشـول
رد لتعليق د. رياض.
وانا لم افرض على أحد ولن يكون أبداً .. فأنا أعرف حدودي في التخاطب مع الآخر مهما كتب أو عبر أو نقل ..وانا لم أوجه الكلام لشخصك .. وإنما علقت على كلمة التراثيون .. وللعلم انا أعلم أنك ناقل لها .. وهي موجودة بكثرة بكتب الحداثيين أو المتغربين ..على كلٍ، تحياتي وتقديري لك ولكل الأعضاء.
د. أحـمد العرامـي
علي عبدالرازق من وجهة نظري أفضل من كتب في الفكر السياسي والردود على الكتاب حاكمت نواياه ولم تحاور فكره.
أ. جميـل الأشـول
رأي يحترم، لكن علي عبدالرزاق نفسه تراجع عن آراء كثيرة كتبها منها مسألة الطلاق .. والعقد الاجتماعية الأسري وغيرها.
د. ريـاض الصـفواني
كتابه :الإسلام وأصول الحكم، الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والدينية، والذي بسببه كيلت له تهم الكفر والخروج على الملة، وتم فصله من عضوية مشيخة الأزهر.
أ. جميـل الأشـول
دكتور رياض. شكلت لجنة من كبار علماء الأزهر الشريف لمناقشة كتابه وليس شخصه .. فوجد أنه أخطأ.. بصراحة دكتور رياض هل قرأت كتابه؟ .. وهل قرأت أيضاَ كتب طه حسين خاصة "الشعر الجاهلي " .. وكتب قاسم أمين "المرأة الجديدة " و "تحرير المرأة "؟ وما رأيك بما كُتِب؟
د. ريـاض الصـفواني
قرأت مقاطع منه، وقرأت له ملخص في دورية لا أتذكر اسمها الآن ضمن الجزء الخاص بمراجعات الكتب.
أ. جميـل الأشـول
أنا قرأته كله .. والله ان فيه نصوص يستحي أن يقولها الإنسان .. وان أردت أن أعطيك لتقرأه لا مانع عندي .. حتى تحكم من منطلق قرأته له.
د. أحمد العرامي
نعم . وهو كتيب وليس كتاب وخلاصته أن الخلافة نظام حكم وليس جزء من الدين.
أ. جميـل الأشـول
ان الحكم بما أنزل الله ليس مطلب شرعي؟ فما رأيك دكتور أحمد؟
د. أحـمد العرامـي
لنقف قليلاً بتروي بصبر بعيداً عن الأحكام المسبقة.
ـ نفاخر بمنجزات الحضارة العربية الإسلامية، فهل خرجت من شبه الجزيرة العربية، وماذا نسمي ترجمة علوم الأمم السابقة الهنود والفرس واليونان؟ هل هو بناء حضاري ام انه انصهار في تلك الأمم مثل ما نسميه تغريب اليوم؟
ـ لماذا لم نعرف ابن خلدون إلا عبر الاستشراق، وهل هو يستحق هذه الهالة ام الاستشراق صنع له هالة؟ وإذا كان يستحقها لماذا أهمل من قبلنا .. ألم يعاني "مالك بن نبي" من اليساريين والإسلاميين و وفقهاء السلطة؟
ـ لماذا نتجاهل دس السم لأعلام الإصلاح الافغاني، والكواكبي، وعلي مبارك، في حين كان الصيادي هو الآمر الناهي؟
ـ طالما الاستفادة من الغرب تغريب و و و لماذا نشيد بما قامت به الدولة العثمانية من ادخال النظم الاوروبية؟
أ. فـوزي الغويـدي
أعتقد أن علي عبدالرازق طرح فكراً مغايراً للتراث برؤية حداثية مبكرة ولديه كتاب آخر بعنوان "جمهورية النبي"، أيضا به طرح فكري حداثي مغاير لما موجود في التراث وسواء اختلفنا معه أو اتفقنا، أراه تحريك للماء الراكد (التراث).
د. عبدالودود مقشــر
"جمهورية النبي" لعبدالرزاق الجبران.
ا . فـوزي الغويـدي
صحيح . خانتني الذاكرة.
نقاط جميلة دكتور أحمد ..لـ "طه عبدالرحمن" في النقطة الأولى رأي جميل بأن عملية الترجمة لها ثلاثة ترجمة حرفية و ترجمة بيانية و ترجمة ايصالية، ويرى بأن العرب عملوا بالأولى و لم يعملوا بالثالثة، وهي الأصح وخاصة في مجال الفكر والفلسفة لأن عملية الترجمة عملت على نسخ الفكر الغربي كما هو وليس كما يناسب تراثنا العربي .. فمثلاً هو يرى أن ترجمة عبارة - أنا أفكر أنا موجود- حرفية والترجمة الايصالية لها هي - ابصر تجد.
*أما بخصوص السؤال المطروح حول أعلام التيار التغريبي وأعلام التيار التراثي، في الوقت المعاصر البعض يعتبر، أركون والجابري والعروي وسلامة موسى من التيار التغريبي .. ويعتبر طه عبدالرحمن ومالك بن نبي ولا استحضر البقية من التراثيين.
د. أحـمد العرامـي
ما معايير التصنيف؟
أ. فـوزي الغويـدي
ما يدعون إليه في كتبهم.
د . أحـمد العرامـي
أرجو التوضيح.
د . عبدالودود مقشــر
أسئلة الشيخ التي لم تُحسم منذ 95 عاماً .. ما الذي تبقى من كتاب «الإسلام وأصول الحكم»؟
ــ محمد عبدالوهاب الشيباني:
(1) الكتاب في تتبُّعٍ و وجهتي نظر.
في مطلع عشرينات القرن الماضي، كانت مِصرُ على عتبة تحوّلٍ جديدةٍ، بفعل المتغيرات الكبيرة التي شهدتها المنطقة غداة الحرب الكونية الأولى. الحرب التي أزاحت الدولة العثمانية عن المشهد السياسي في المحيط، واستبدلتها بقوى الاستعمار الأوروبي الجديد والصاعد (إنجلترا وفرنسا، وبنفوذٍ أقلّ، إيطاليا).
لم تكن ثورة العام 1919، التي مَهّدتْ للقوى الوطنية المصرية أن تصنع واجهتها السياسية التي عُرفتْ تالياً بـ”حزب الوفد”، إلا تعبيراً عن عمليةٍ شاقّةٍ وطويلةٍ لتفكيك الطبقة السياسية المهترئة وقوى الحكم التاريخية التي تتحكم في البلاد ذات الكثافة السكانية والجغرافيا المتعددة، صاحبة الإرث السياسي والحضاري المتنوع. فارتدادات الحملة الفرنسية، وتاريخ حكم الأسَر الألبانية والعثمانية الطويل، وصولاً إلى خبرات الاحتلال الإنجليزي، وتاريخياً، مبذولات الحضارة الفرعونية وحقب الحكم الإسلامي الطويل، والتأثيرات اليونانية والرومانية القديمة… كانت – مجتمعةً - تقود نُخَبَ المجتمع إلى استبصاراتٍ جديدةٍ، المُعوِّقات أيضاً لم تكن هي الأخرى هيِّنةً وسهلةَ التجاوز، خصوصاً ما يتصل بالمؤسسة الدينية التقليدية ودائرة الحكم الأسري؛ ففي الأولى كان “الأزهر” الثابت والجامد، بتاريخه الطويل وسلطته الروحية المؤثرة، وفي الثانية كان الملك فؤاد الأول، بطموحه السياسي الذي يُرَغِّبُه في أن يكون خليفةً للمسلمين، بعد أن أسقط كمال أتاتورك، بنزوعه العلماني، الخلافةَ ومركزَها، فعدَّها المحافظون والتقليديون مؤامرةً كبرى على الإسلام وشعوبه، ووجوب استعادتها، حتى في غير رمزيّتها المكانية في الباب العالي.
في هذا الوضع “الفوَّار”، ظهرَ من يعيد قراءة الحالة الملتبِسة بين الديني والسياسي، التي غذَّتها تنازعاتُ السلطة ودمويّتُها في تاريخ الدولة الإسلامية في قرونٍ طويلةٍ، ووصلتْ إلى لحظة الانسداد مع الخلافة العثمانية (الدولة السلطانية)، من منطلق أن هناك أسئلةً مُلِحّةً تفرضها “متطلبات العصر من الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تضْمَنُها الدولة المدنية، من جهةٍ، ودولةٍ دينيةٍ تُعزِّز مقولاتٍ ومفاهيمَ دينيةً وثقافيةً تقليديةً وعتيقةً، مثل الشورى والخلافة، من جهةٍ ثانية”.
مَن أعاد مثلَ هذه القراءة، هو الشيخ الأزهري والقاضي الشرعي علي عبدالرازق (1888-1966)، صاحب الكتاب الإشكالي “الإسلام وأصول الحكم”، الذي أصدره قبل خَمسٍ وتسعين سنةً من الآن.
الخطوط العريضة للكتاب، حسبما يذهب أمين حمزاوي، تتمثل في إنكاره للخلافة ورفضه إضفاءَ القُدسية عليها، باعتبارها مكَوّناً من مكوّنات عقيدة الإسلام، محاولاً البرهنة على كونها نتاجاً/اختراعاً تاريخياً ودنيوياً خالصاً، وأَلّا شأنَ لها بصحيح الدين؛ فلم تكن يوماً فرضاً إلهياً ولا واجباً شرعياً.
الكتاب، حالَ صدورِهِ في العام 1925، تعرَّضَ هو وصاحبه لهجمةٍ شرسةٍ من المؤسسة الدينية التقليدية “الأزهر”، واتُّهِم بالدعوة إلى العلمانية وفَصْل الدين عن الدولة؛ في خطابٍ تهييجيٍّ لمشاعر المتدينين البسطاء. أعقبها شيخُ “الأزهر”، وقتذاك، محمد الخضر حسين، بإصدار كتاب “نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم”، والذي ترتّب عليه قيامُ “الأزهر” بسحب الشهادة العالمية منه وإخراجه من زمرة العلماء. ومما قيل فيه أنه كتابٌ أصدره صاحبه “لخداع جماهير المسلمين عن حقيقة دينهم، وإذاعة مفهوم الدين العبادي القائم على الروحيات والمساجد، وإنكار حقيقة الإسلام بوصفه ديناً ومنهجَ حياةٍ ونظامَ مجتمع”.
وفي المغرب العربي، أحدث الكتابُ خَضَّةً مماثلةً استدعتْ من مفتي “المالكية” بالديار التونسية، محمد الطاهر بن عاشور، أن يكتب تعقيباً مطوّلاً سَمّاه “نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم”، ضمَّنَه الكثيرَ من النقد بذات الكيفية التي سار عليها شيخُ “الأزهر” وبعضُ الكُتّاب الموالين للأزهر والقصر. حتى إن كاتباً لاحقاً، هو أنور الجندي، الذي عُرف بمعاركه الشرسة مع رموز حركة التنوير في مصر والوطن العربي، ذهب إلى القول إن كتاب “الإسلام وأصول الحكم” ليس من تأليف علي عبدالرازق، بل من تأليف المستشرق والقس الإنجليزي ديڤيد صمويل مارگليوث، المعروف بمرجليوث، أستاذ طه حسين، والذي بدوره أصدر، في العام التالي، كتابَه الإشكالي “الشعر الجاهلي”، الذي أقام الدنيا ولم يُقعدْها، اضطُرّ صاحبُه لاحقاً إلى تغيير بعض محتواه، وتغيير عنوانه إلى “في الأدب الجاهلي”، بعد حملةِ تنكيلٍ من ذات المؤسسة.
الأثر الذي أحدثه كتاب “الإسلام وأصول الحكم” جعل بعضَ الفقهاء يذهبون إلى القول إن ما صنَعَه كان أشدَّ فتكاً مما صنعه أتاتورك نفسه، في إلغائه للخلافة بقوة السلطان، لأن الكتاب عمِلَ على التغيير داخل الأصول والمسلّمات الدينية؛ في حين ما صنعه أتاتورك كان موضوعاً يتصل بالردّة الصريحة، التي لها أحكامُها الواضحة في نصوص الشريعة.
ومن وجهة النظر هذه، تغذّتْ وتقوَّتْ عمليةُ التشويه والشيطنة لأفكار الكِتاب بقولهم إنها تقوم “على تفسير الدين الإسلامي بما يتفق مع التصور الغربي للدين”. وفكرة الدين الإسلامي، وفقاً للتصور الغربي حسب رأي المخالفين “لا تتضمن سلطةَ حُكْمٍ، حيث كان محمدٌ رسولاً لدعوةٍ دينيةٍ خالصةٍ للدين، لا تشوبها نزعةُ مُلْكٍ ولا دعوةٌ لدولة، وإنما أحدَثَ ذلك المسلمون من بعده. وكانت الحكومةُ التي أقامها الصحابةُ من بعده حكومةً دنيويةً ليست من أحكام الإسلام”.
الضغوط الشديدة والإرهاب الفكري، الذي تعَّرض له الشيخ علي عبدالرازق، لم تقِفْ عند مصادرة الكتاب؛ بل وفي فصله من عمله كقاضٍ شرعيٍّ في محكمة المنصورة. ولم يُعَدْ له الاعتبارُ، وإعادته إلى زُمرة العلماء الأزهريين، إلا حين تولى شقيقُه، الشيخ حسين عبدالرازق، مشْيَخَةَ “الأزهر”، بعد عشرين عاماً من صدور الكتاب بالضجّة التي صاحَبَتْه.
لكن بمقابل هذا الصوت المستشرس الناقد، ظهر صوتٌ ناقِضٌ له تماماً، احتوته دراساتٌ معاصرةٌ في حقول الفكر الديني عملتْ بدأبٍ لإعادة التعريف بالكتاب ومؤلِّفه، من وجهات نظرٍ عقلانيةٍ، متخلصةٍ من نزعة التشدد بشِقَّيْها. وفي إحداها، مثلاً، يرى المغربي الحسين أخدوش في الكتاب أنه “يكتسي قيمةً علميةً وفكريةً بارزةً، في ما يخصّ دراسة ظاهرة الخلافة من وجهة نظرٍ دينيةٍ اجتماعيةٍ وتاريخيةٍ، ذات علاقةٍ وثيقةٍ بالالتباس الحاصل بين مفهوميْ الشورى والديمقراطيّة. وبالرجوع إلى هذا النصّ، نلاحظ انشغالَه الشديد بإبراز مسألة أنّ الخلافة ظاهرةٌ تاريخيةٌ، من حيثُ هي ممارسةٌ بشريةٌ لا غير؛ ولكن تمّ تغليفُها بالدين وصُبِغتْ به لتبرير ممارستها بطرقٍ معيّنة. ونحن نرى ذلك واضحاً بين كلّ ثنايا الكتاب، وبخاصةٍ فيما يتعلّق بإصرار البعض على تأصيلها في الدين؛ حيث ينزِعُ بحثُه هذا إلى تفنيد ذلك انطلاقاً من استقصاءاتٍ نصيةٍ فقهيةٍ وتاريخيةٍ اجتماعيةٍ فريدةٍ تُحسب لهذا المفكّر الجليل”.
إسهام علي عبدالرازق العلمي في هذا الكتاب كان تطويراً ناضجاً لأفكار بعض رموز مدرسة النهضة وتجديد الفكر الديني، الذين قاربوا بالنقد قضايا الجمود والانغلاق التي تُصلّبُها المؤسسة الدينية المحافِظة في حياة المجتمعات، حين تحولتْ إلى أداةٍ من أدوات الحاكم لتبرير استبداده وفساده. والحديث هنا عن إسهامات الإمام محمد عبده في كتابيه: “الإسلام بين العلم والمدنية”، و”تقرير إصلاح المحاكم الشرعية”، وكتابات جمال الدين الأفغاني في جريدة “العروة الوثقى”، التي تدعو الأمم الإسلامية إلى الاتحاد والتضامن والأخذ بأسباب الحياة والنهضة، وكتاب عبدالرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وغيرهم من رواد التنوير الباكرين.
يبقى السؤال الحيُّ والماثل الدائم: ما الذي أضافه المفكرون المعاصرون من المشتغلين في حقل الدراسات الدينية وتجديد الفكر الديني إلى كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، في بحثه في الخلافة والحكومة في الإسلام؟
بالتأكيد، هناك عديدُ أسماءٍ تناولت القضية من أوجُهٍ مختلفةٍ، وعلى وجه الخصوص من وجدوا في مستقرّاتهم الجديدة في العالم الأول (أوروبا والغرب)، أو الذين بقوا في بيئاتٍ محليةٍ متصلةٍ بالآخر (بلاد المغرب) مساحاتِ معاينةٍ أكثر انفتاحاً لجذر المعضلة بعموميتها. لكن بالمقابل، هناك بعضُ مَن عُرفوا بنزوعهم التجديدي في شبابهم الباكر، مثل خالد محمد خالد ومحمد عمارة ومحمد الغزالي، انتهَوا أصوليين متنكِّرين لكل ما كتبوه وكَتَبه غيرُهم في القضايا الإشكالية، وهم ممّن روَّج لتراجع عبد الرازق عن أفكاره في هذا الكتاب قبل وفاته؛ في محاولة لإماتته معنوياً في سياق التفكير الجديد.
ومع ذلك، يبقى الكتابُ، بأسئلته الكبيرة والمفتوحة، واحداً من أهم الكتب الكلاسيكية لمفكري عصر النهضة العرب وأهم مراجعها، في بحثها عن هوية الدولة وشكلها: هل هي مدنيةٌ أم دينيةٌ، والتي لم تزل تفعل فعلَها في طرائق التفكير والجدل الذي لم يُحسم حتى الآن؟
2) في محتوى الكتاب (عرض الأفكار)
كتاب “الإسلام وأصول الحكم – بحثٌ في الخلافة والحكومة في الإسلام” يتألف من ثلاثة أقسامٍ، أو ثلاثة كتبٍ، كما أراد المؤلف توصيفه في فهرسة الكتاب:
– الأول عنوانه “الخلافة والإسلام” ويشتمل على ثلاثة أبواب:
(أ) “الخلافة وطبيعتها”، ويتناول فيه: “الخلافة لغةً واصطلاحاً”، “معنى القول بنيابة الخليفة عن الرسول”، “سبب التسمية بالخليفة”، “حقوق الخليفة”، “الخليفة مقيداً بالشرع”، “الفرق بين الخلافة والمُلك”، “من أين يستمد الخليفة ولايته”، و”هل تُستمد الولاية من الله أم من الأمة”.
(ب) “حُكم الخلافة”، ويتناول فيه: “الموجبون لمنصب الخليفة والمخالفون في ذلك”، “أدلة القائلين بالوجوب”، “القرآن والخلافة”، “كشف الشبهة عن بعض الآيات”، “السُنة والخلافة”، و”كشف شبهة من يحسب في السُّنَّة دليلاً”.
(ج) “الخلافة من الوجهة الاجتماعية”، وفيه: “تمحيص دعوى الإجماع”، “انحطاط العلوم السياسية عند المسلمين”، “اعتماد الخلافة على القوة والقهر”، “الخلافة والاستبداد والظلم”، “الضغط الملوكي على النهضة العلمية والسياسية”، “الحكومة غير الخلافة”، و ”انقراض الخلافة في الإسلام”.
– “الثاني عنوانه “الحكومة والإسلام”، ويشتمل على ثلاثة أبواب:
(أ) “نظام الحكم في عصر النبوة”، ويدرس فيه: “القضاء وصعوبة الحكم عليه”، “خلو عصر النبوة من مخايل المُلك”، “إهمال عامة المؤرخين البحث في نظام الحكم النبوي”، و ”هل كان النبي ملكاً”.
(ب) “الرسالة والحكم”، ويتناول فيه: “اختلاف الرسالة عن الملك”، و ”بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الدولة في عهد الرسول”، “هل كان تأسيس النبي لدولةٍ سياسيةٍ جزءاً من رسالته”، و ”البساطة الفطرية في نظام الحكم النبوي”.
(ج) “رسالةٌ لا حكمٌ”، و ”دينٌ لا دولةٌ”، ويدرس فيه: “كان النبي رسولاً غير مَلِك”، و ”القرآن ينفي عن النبي صفة الحاكم وكذلك السُّنَّة”، و ”طبيعة الإسلام تأبى ذلك”.
– الثالث عنوانه “الخلافة والحكومة” في التاريخ، ويشتمل على ثلاثة أبواب:
(أ) “الوحدة الدينية والعرب”، ويدرس فيه: “الإسلام ليس ديناً خاصاً بالعرب”، و ”اتحاد العرب الديني مع اختلافهم السياسي”، و ”أنظمة الإسلام دينيةٌ لا سياسيةٌ”، وانتهاء الزعامة بموت الرسول”، ولماذا لم يُسَمِّ الرسول خليفةً بعده”، و ”مذهب الشيعة في استخلاف علِيّ”، و "مذهب الجماعة في استخلاف أبي بكر”.
(ب) “الدولة العربية”، ويتناول فيه: “الزعامة السياسية بعد النبي”، و ”أثر الإسلام في العرب”، و "نشأة الدولة العربية”، و ”اختلاف العرب في البيعة”.
(ج) “الخلافة الإسلامية”، وفيه: “ظهور اللقب واختياره”، “المعنى الحقيقي لخلافة أبي بكر”، “تسمية الخوارج على أبي بكر بالمرتدّين ولم يكن كلهم مرتدّين”، “حروبٌ سياسيةٌ لا دينيةٌ”، “شيوع الاعتقاد أن الخلافة مقامٌ دينيٌّ”، “ترويج الملوك لذلك الاعتقاد”، و ”لا خلافةَ في الدين”.
انتـهى النقاش ،،، شـكراً لكل من شـارك في إثراء الحلقـة