منتدى المؤرخ الحصيف
سلسلة حلقات برنامج النقاش الرمضاني التاريخي
الحلقة الأولى
01 رمضان 1444هـ/ 24 مارس 2023م
"أهمية علم التاريخ وعلاقته بعلم الآثار ودور المؤرخ".
منتدى المؤرخ الحصيف.
رئيس الجلسة:
د. رياض الصفواني.
القسم الأول
التقديم للحلقة
موضوع الحلقة
"أهمية علم التاريخ وعلاقته بعلم الآثار ودور المؤرخ"
تقديم رئيس الجلسة
الدكتور د. رياض الصفواني
بسم الله الرحمن الرحيم
بدايةً نرحب بكم جميعًا ... وشهركم مبارك وكل عام وأنتم بخير، ونفتتح معكم أُولى حلقات النقاش الرمضاني لهذا العام والمعنون بـ: - "أهمية علم التاريخ وعلاقته بعلم الآثار ودور المؤرخ".
- مقدمة الجلسة:
- أهمية علم التاريخ وعلم الآثار.
التاريخ علم، موضوعه الإنسان فكراً وسلوكاً، وهو بمعنى من معانيه العديدة وعاء يستوعب تجارب الإنسان الماضية في سائر شعَب حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والفكرية والفنية، ولا يستغني عنه علم من العلوم التي تختص بدراسة تلك الجوانب نظرية كانت أم تطبيقية، لأِنَّ لكل علم تاريخ، والمقصود هنا توقيت البداية، فالطبيب قبل أن يشخص حالة المريض يسأله أولاً متى كانت بداية مرضه، أي عن التاريخ المَرضي. كما أنّه لا غنى للتاريخ بصفته العلمية عن كل تلك الجوانب، فهي روافد تصب في حوضه العميق، ويفيد منها المؤرخ كعلوم مساعدة، فعند التأريخ لظاهرة الهجرة ببعديها الداخلي أو الخارجي يأتي العامل الاقتصادي في مقدمة الأسباب، وعند الوقوف على أسباب الهزائم والانتصارات العسكرية يؤخذ العامل الجغرافي بعين الاعتبار، وعند التأمل في طبيعة الانقلابات عسكرية أو مدنية فإن الجانب السياسي لا يمكن إغفاله، وعند التأريخ للفرق والمذاهب والتيارات والحركات الدينية وغير الدينية فإن للبعد الفكري حضوره المؤسس الذي لا يمكن تجاهله. والمشتغل بالعلوم النظرية الحديثة يرجع إلى التاريخ لمعرفة التوقيت الزمني للإشكالية العلمية التي يدرسها، ويمكنه أن يقتبس من معطياته ما يثبت فرضيته أو ينفيها.
إِنَّ العلاقة بين علم التاريخ وعلم الآثار، فمفتتح القول إِنَّ علم الآثار هو العلم الذي يُعنى بدراسة مخلفات الإنسان المادية منذ لحظة ظهوره على سطح الأرض في إطار تحقيب زمني، تُحدَّد بداية تلك الحقب ونهايتها في ضوء تطور حياة الإنسان المادية، التي تشمل وسائل معيشته وأدواته وصناعاته ( )، وهو التطور الذي يعكس مستوى تفكير الإنسان، فظهر - على سبيل المثال - ماعُرف بالعصر الحجري القديم و الوسيط و الحديث، وعرفنا أيضاً عصور ما قبل التاريخ وما بعده، وما قبل التاريخ يقصد به ما قبل التدوين الكتابي الذي ظهر في بلاد الرافدين في منتصف الألف الرابع ق.م وفق العديد من أهل الاختصاص ( )، وهنا يجدر التنويه إلى نقطة في غاية الأهمية في سياق العلاقة بين علم التاريخ وعلم الآثار، وهي أنَّ علم التاريخ يعتمد على علم الآثار في معارفه عن عصور ما قبل التاريخ أي ما قبل اكتشاف الكتابة، وما بعد التدوين الكتابي يعتمد المؤرخ على الآثار المكتوبة أو بالأدق الوثائق المدونة بكل تنويعاتها وأشكالها، منها الكتابة على الصخور والألواح الطينية والخشبية أو الكتابة على الجلود والورق (الرق) ( )، وإذا كان الآثاري يدرس التفاصيل المادية الكبيرة والصغيرة التي يجدها في المواقع والمعالم واللقى الآثرية ليحدد عمرها الحقيقي أو الافتراضي ويستنتج بالتالي الطبيعة الذهنية التي تقف خلف هذه التفاصيل، فإِنَّ مهمة المؤرخ تُركز في الغالب على الظواهر والمظاهر والتفاصيل والمعالم الرئيسة ومحاولة إبرازها، مع تتبع الذهنية المنتجة لها والبواعث التي صاغتها وأوصلتها إلى شكلها النهائي، وبناءً على ذلك فإن العلاقة بين علم التاريخ وعلم الآثار تقوم على الطبيعة العضوية والتكاملية بينهما، فالآثار المادية هي مادة المؤرخ الرئيسة ومصدر معلوماته الموثوقة إلى حدٍ بعيد ولاسيما في ما يتعلق بالتأريخ للحقب الزمنية القديمة وما قبل الكتابة إلى جانب التدوينات النصية، وعلم الآثار هو مختبر التاريخ مجازاً.
وعليه، فإِنَّ العلمين صنوان لا يفترقان في المادة والمنهج، فكلاهما يتبع منهجاً علمياً واحداً من حيث جمع المعلومات وترتيبها وتصنيفها ومقارنتها وتحليلها وبنائها بناءً موضوعياً وزمنياً ( ). ولعل الشاهد الأقرب أنَّ علم التاريخ وعلم الآثار في جامعة صنعاء وفي بعض الجامعات الأخرى بقيا لسنين منذ التأسيس (رتقاً ففتقوهما) لغرض التفريع إلى عدد من التخصصات الدقيقة في إطار التخصص العام.
- دور المــــؤرخ.
يحدث على مرِ التاريخ وفي مجتمعات مختلفة أنَّ القوة التي تتربع على عرش السلطة السياسية بأشكالٍ مختلفة سواء بثورة أو انقلاب أو بما يعرف مؤخراً بحركة تصحيح المسار أو تحت أي مسمى وتوصيف أن تصوغ لها تلك السلطة تاريخاً يبدو أقرب إلى المثالية أو الطوباوية منه إلى الواقعية، وقبله أو بالتزامن معه هدم ممنهج لتاريخ السلطة التي سادت قبلها من منطلق الهدم الذي يسبق البناء في تصور الهادم!، وقد يصل الأمر إلى شيطنتها، محاولة بذلك تسويغ حكمها واستدرار عواطف الجماهير للالتفاف حولها، وتسخيرهم لكل ما من شأنه أن يخدم تطلعاتها ويطيل أمدها في السلطة، ولاسيما في مجتمعاتنا العربية الأقل وعياً التي يسهل تطويعها بأقل جهد وبأقرب وسيلة متاحة، وفي الصدارة منها الوسيلة الدينية (التوظيف السياسي للدين)، وهنا يأتي دور المؤرخ المحترف المسلح بالمنهج العلمي، الذي يضبط بوصلة الحقائق التاريخية ويقوّم المسار التاريخي المعوج، ويعطي كل حدث حقه دونما زيادة أو نقصان وفق مقتضيات الزمان ومعطيات المكان ودون أن يُسقِط عليها مفاهيم أيديولوجية فكرية سياسية شائعة في زمنه، كشرط أساسي من شروط المنهج العلمي الذي يعمل في ضوئه، ذلك المؤرخ الذي ينتمي عمله بصورة ما إلى حقل القضاء، وذلك لجهة النظر إلى الوقائع كقضايا تاريخية تتطلب دراسة معمقة وإحاطة شاملة لجزئياتها وحيثياتها المختلفة المتناثرة أمامه وتمحيصها ومقارنتها مع بعضها البعض ثمَّ استخلاص الحكم منها، وهو حكم قابل للاستئناف أو النقض وفق ما يستجد من براهين تاريخية، فلا يَعْتَد المؤرخ بالتاريخ الرسمي وهو الغالب بمقتضى فرضية أن "التاريخ يكتبه المنتصر"، إن كنا لازلنا نعدها فرضية وتحتاج من ثم إلى اختبار وتحقيق، ولا يَعْتَد أيضاً بالتاريخ الشعبي الذي على صغر مساحته يبحث له عن موطئ قدم بعد أن احتل التاريخ الرسمي معظم المساحة، بل يتناول المؤرخ بالتأمل العقلي والتحليل العلمي جوانب مختلفة ووجوهاً شتى للواقعة أو الظاهرة التاريخية، ليصل بعد استبعاد ما لا يتوافق مع الواقع والمنطق السليم من خرافات وأساطير وأهواء ونوازع شخصية وتهويل أو تضخيم للحوادث والمواقف والأدوار - وهنا يتبدى الحس التاريخي الثقافي للمؤرخ - إلى الربط بين أجزائها وتركيبها بصورة تعكس مهارة إبداعية (فنية) بغية مقاربة حقيقة صورتها التي كانت عليها في زمنها ومكانها المحددين، وهي مهمة شاقة، لكنها أمانة ومسؤولية إنسانية أدبية وعلمية معلومة من العلم بالضرورة.
وفي ضوء ما سبق لعل بالإمكان تشبيه العلاقة بين علم التاريخ وعلم الآثار بـ (التوأم السيامي) وهي علاقة أخوية متطابقة، جرى فصلهما لاحقاً لمقتضيات علمية تخصصية دقيقة، فبقي العِلمان متحدان يكمل بعضهما بعضاً.
كما أنَّ الدور الذي يضطلع به المؤرخ (الاحترافي) يتمثل في البحث الدؤوب عن الحقائق التاريخيّة والكشف عنها للتثبت من مدى صحّتها ودقتها، وذلك بانتهاج أسلوب المقارنة والاستنباط لاستيعاب ما أوردته المصادر التاريخيّة، وربط الماضي والحاضر ببعضهما بأسلوب إبداعي يكشف عن تطور في مستوى تفكيره، فيتكون لديه بالمِراس والمثابرة ملَكة وحدس تاريخيين يمكنانه من اكتشاف الحقائق التاريخية وإدراك القوانين التي تسيَّرها وتحكم علاقاتها، وهي علاقة السبب بالنتيجة، والعلة بالمعلول، وصولاً إلى استنباط الأحكام الكلية، التي في ضوئها يمكن تفسير الحوادث والظواهر التاريخية المشابهة أو المقاربة لبعضها البعض بالاستناد على حقيقة كينونتها البشرية.
القسم الثاني
(الأسئلة والمداخلات)
أولاً: الأسئلة والإجابة عنها
ا. فيصل علي سعيد:
شكرًا لك دكتور رياض. رمضان مبارك كريم لك ولكل أساتذتي وزملائي الأعزاء في هذا المنتدى.
حقيقة مقدمة أكثر من رائعة ومحتوي قيم. إِنَّ الملاحظ في تاريخ اليمن من كونه تاريخ طبقة معينة مهيمنة في كتابة التاريخ كُتّابها ممن ينتمون إليها، وبالتالي تجد كل ما يمت لهم بصلةٍ موثق مقيد ممجد في كل النواحي؛ إِلاَّ ما ندر تجد فيه بعض الأشياء التي يكتب بها التاريخ العام.
وفي اعتقادي أنَّ هناك تشابه كبير في كثير من مدارس التاريخ في العالم، ولكن الأمر لدينا كيمنيين وتاريخ يمني. نجد أنَّ ثمة اختلاف، ربما بدأ هناك تغيير في مناحي بعض الأطاريح أو الرسائل العلمية.
وقبل هذا لاحظت أنَّ عملية التدوير مستمرة في تاريخنا الراهن، وشدّ انتباهي هو عدم ذِكر ما يدور في الفترة المعاصرة لماذا؟!، ربما قد يتعرض من يكتب لبعض المشاكل والعقوبات التي يمارسها أي نظام حكم.
لا أطيل في هذه الجزئية وانتقل إلى التاريخ من أسفل كيف نكتبه حاليًا، نظرًا لـ شِحة المصادر التي يُعتمد عليها. ولماذا يتم الهروب من ذلك.
تساؤلي: هل هناك ترابط بين المؤرخ والآثاري في الكتابة التاريخية؟
د. رياض الصفواني:
شكرًا أستاذ فيصل.
نعم. ثمّة ترابط أوردته في ثنايا فقرة العلاقة بين المؤرخ والآثاري في الملخص أعلاه.
د. أمين الجبر:
طرح علمي عميق ورصين، وكنتُ قد كتبت عمّا يشبه الموضوع.
عنوان المقال: الآثار ... والتاريخ ... والسياحة ... ثلاثية موضوعية واحدة ... وهَمّاً قوميًا جامعًا.
بقلم: د. أمين الجبر.
لأنَّ الآثار والتاريخ والسياحة كل متكامل موضوعًا ومجالًا، بالتالي فإِنَّ قضاياها، بالضرورة، واحدة ومترابطة، حيث الأول أساس الثاني ومقدمته، والثاني تجلي الأول وترجمته، والثالث صدى الأول والثاني، إن لم يكونا مجاله وموضوع سياحته.
فثمة قضايا أثرية / تاريخية عديدة مرتبطة بالسياحة، نستطيع القول حيالها: أنّها قضايا جوهرية ملحة، وذات بُعد حضاري/ تكاملي لا يمكن تجزئتها أو إغفالها في الوقت الراهن ، ليس لأنّها تشكّل علاقة عضوية، وارتباط مصيري، بين ثلاثتها (الآثار، التاريخ، السياحة) وحسب، إنمّا لأنّها تمثل لدى الكل همًا علميًا / قوميًا واحدًا، إن لم يكن هاجسًا مصيريًا للهوية القومية الجامعة، لا يجوز تجاهله، حيث غدت هذه القضايا الشائكة من الأهمية بمكان وصار لزامًا على الجميع دعمها والحفاظ على ما تبقى منها، وتعزيز دور ثلاثتها بشكلٍ إيجابي ومتكامل.
تكمن القضية الأولى: في ما تشهده العديد من المواقع الأثرية والتاريخية العربية الهامة من إهمال وعدم اهتمام، مثل بعض الأقطار العربية ومنها اليمن والتي نسمع بين الفينة والأخرى، أنّه يتم السطو عليها من قبل بعض المواطنين أو من قبل بعض النافذين، ولم تحرك الجهات الرسمية، سواء أثرية أو تاريخية أو سياحية، أي ساكن وتكتفي بالشجب والإدانة ليس إِلَّا.
أما القضية الشائكة الثانية: والتي تشكّل نوع من التداخل وربما الاشتباك بين الجهات ذات العلاقة فهي تتمثل في المواقع الأثرية والسياحية، حيث يتم طرح مشاريع مختلفة ومتناقضة كمشروع سياحي آني في موقع أثري عتيق، وهو الأمر الذي يشكل خطراً على الموقع الأثري، بالمقابل حرمان لمشروع سياحي. وفي ظل هذا التشابك لابد من حلول مرضية بحيث نحافظ على مصلحة الجميع، والتي تكمن من وجهة نظرنا في إبقاء المواقع الأثرية كما هي عليه: خامة / طازجة. بمنأى عن أي استحداثات، وفي هذه الحالة سيكون، بالضرورة أيضًا، موقعًا أثريًا وسياحيًا في آن. نحافظ على طابعه الأثري ولا يمنع أن نتمتع بمناظره السياحية ونستغل في نفس الوقت بمعلوماته التاريخية، وفي هكذا حالة سنكون قد مارسنا وتمتعنا به أثرًا وتاريخًا وسياحة.
ومن هنا لابد من تنظيم تلك العلاقة التكاملية، بحيث نبعدها عن الاحتكاك اللامبرر والتوظيف الربحي السريع ونحقق من ثم غاية علمية / وطنية واحدة، تتمثل في التكامل والتناغم بين جميع الأطراف ذات العلاقة. كما ينبغي أن ننوه إلى أنّه لا نقتصر تلك العلاقة في التراث المادي والمواقع الأثرية وحسب، إنّما هناك تراث فكري ثري يشكّل مجالًا حيويًا لعلاقة تكاملية / استراتيجية بين ثلاثية الأطراف (الآثار، التاريخ، السياحة). مثل المتاحف ومراكز المخطوطات والوثائق ... الخ. وكل ما من شأنه يتعلق بالآثار والتاريخ والسياحة.
القضية الثالثة وهي الأهم: افتقار الأطراف الثلاثة، راهنًا، إلى خطط واستراتيجيات مستقبلية بحيث تنظم العمل وتنسق كل الجهود في سبيل تحقيق التكامل والتآزر في شتى المجالات الأثرية والتاريخية والسياحية على مستوى خراطة الوطن العربي، وهذا من وجهة نظرنا المسبب الأول لعملية الاحتكاك والتقاطع، والذي يجب تفاديه وحله بطرق علمية سليمة ومدروسة بعيدًا عن الانطباعية والمزاجية المتقلبة والتي تمليها المصالح الربحية والمواقف السياسية المتباينة.
إنَّ الآثار والتاريخ صنوان متكاملان بشرط الثقافة والتقانة، وبرغم عن السياسة والأيديولوجيا، فهل ستكون السياحة ثالثة التكامل والتآزر بعيدا عن ثقافة الرأسملة والربح والخسارة - تمنى ذلك.
د. رياض الصفواني:
كعادتك دكتور أمين ثراء علمي وترابط ووضوح وعمق.
ا. د محمد بلعيد:
عمل رائع وجميل من دكتور ومؤرخ حصيف. عندي تساؤل:
كيف نستطيع نميز بين الاخباري والمؤرخ؟
د. رياض الصفواني:
شكراً على السؤال، في الرابط التالي محاولة معقولة لمعرفة: "الفرق بين المؤرخ والإخباري" على نحو مختصر.
المصدر: ملتقى المؤرخين اليمنيين. 23/04/2020. (صفحة "تاريخنا" فيسبوك).
- https://wefaq.net/c/publishers/112.
عنوان المقال: "الفرق بين المؤرخ والإخباري".
- يقول المؤرخ الموسوعي الدكتور يحيى بوعزيز (1929 - 2007):
وليس التاريخ مجرد سردِ حوادث الحروب ووقائع الأمم، أو التعرض لذكر أخبار الملوك والوزراء والكبراء وتعداد الغرائب والعجائب؛ مما يندهش له السوقة وأشباههم من الناس.
ولا هو كذلك بمحض سَوْق حكايات عن تقلبات الدهر وتطوراته التي تعتري كل أحد في حياته العادية؛ كلا، فإنَّ هذا كله من شأن الإخبار والإخباريين، وشتان بين الإخباري والمؤرخ.
فإنَّ المؤرخ يفيدنا بأحوال المجتمع الإنساني، وبما يعرض لطبيعته من التقلبات، وأصناف تغلُّبات البشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، ويصل لنا الحاضر بالماضي.
ا. عبد الوارث العلقمي:
شهر رمضان مبارك عليكم جميعًا وكل عام وأنتم بخير أساتذتنا الأعزاء وجميع الباحثين في منتدى المؤرخ الحصيف. والشكر الجزيل لكم دكتور رياض على ما أتحفتنا به من مقدمة مختصرة وشاملة عن أهمية علم التاريخ وعلاقته بعلم الآثار ودور المؤرخ.
ما يلفَّت الانتباه وما نواجه دائمًا في حياتنا كمؤرخين وباحثين من قبل عامة الناس الإشاعة المتجذرة لدى العامة بأن "التاريخ يكتبه المنتصر"، وهي فرضية كما تفضلت بذكرها سابقًا. والسؤال: أطرحه للجميع.
ماذا يمكننا أن نرد به على من يوجه لنا ترديد هذه العبارة وكأنها نظرية مثبتة، وبمعنى أدق كيف نبدّد هذه الفرضية الجدلية حتى يصحح ما علق بأذهان العامة؛ لكي نرفع من مستوى الوعي والإدراك، ونظهر أهمية علم التاريخ ومهنية المؤرخ الحصيف لنعيد للناس الثقة بالتاريخ وبالمؤرخ الأكاديمي؟
د. رياض الصفواني:
شكرًا أستاذ عبد الوارث. المقالة القصيرة التالية تحاول أن تسلط الضوء على هذه الفرضية، إنا كنا سنتعامل معها بوصفها فرضية هل التـــاريخ يكتبه المنتصـــر؟
عنوان المقال: هل التـــاريخ يكتبه المنتصـــر؟
بقلم: د. رياض الصفواني.
تنسب بعض الكتابات مقولة " التاريخ يكتبه المنتصر" إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في سنوات الحرب العالمية الثانية (١٩٤٠ - ١٩٤٥م)، ولأننا لم نبحث ونتحرى عن صحة نسبة المقولة إلى تشرشل فسنفترض أنّه هو من قالها، وفي هذه الحالة فإن خروج بريطانيا منتصرة في الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥م وخروجها منتصرة قبل ذلك في الحرب العالمية الأولى ١٩١٨م يعني أنّها كتبت التاريخ بعقلية المنتصر وسطوته، وبالمثل في بقية دول أوروبا المنتصرة، ومن ثمّ والحال هذه فهو تاريخ لا يُعتد به، ويتطلب بالتالي نقد وإعادة غربلة وتصحيح، ومحاولة الاقتراب من حقيقة الواقع التاريخي وفق المنهج العلمي الذي نما وتقنن في أوروبا القرن التاسع عشر، ويعيه المؤرخ الأوروبي جيداً.
وهذا يقودنا إلى تساؤل مفاده: هل نسلّم بمقولة " التاريخ يكتبه المنتصر" على إطلاقها، وننسف في ضوئها التاريخ كوجود وعلم من العلوم الإنسانية، وننفي من ناحية أخرى إمكانية أن يكون هناك تاريخ آخر كتبه مؤرخ غير مسيّس أو كُتِب خارج هيمنة المنتصر وهو ما يمكن أن ينتمي إلى التاريخ الشعبي المكتوب؟ علاوة على التاريخ الشعبي الشفهي، والتاريخ الذي يمكن استنطاقه من بين ثنايا كتابات أخرى كالكتابات الأدبية، وكتابات الاجتماع والاقتصاد والشريعة وما توافر من أدبيات أخرى تشكل جميعها روافد تفيد الكتابة التاريخية من وجوه مختلفة وبمستويات متفاوتة.
صحيح أنَّ مساحة واسعة من الكتابات التاريخية قد اصطبغت بصبغة سياسية، نتيجة لهيمنة السياسي على التاريخي والثقافي والفكري والاجتماعي والاقتصاد والعسكري والفني في واقع الدول والمجتمعات التاريخية، لكن ذلك لا ينفي أنَّ ثمّة كتابات تاريخية تنطوي على نسبة ما من الموضوعية والواقعية كتبها مؤرخون من خارج المؤسسة السياسية والأيديولوجية الحاكمة، بل وحتى من مؤرخين من داخل المؤسسة السياسية بمقدار معين، وذلك إذا ما أعملنا النظر المنهجي في التاريخ السياسي المدوّن واستخلصنا من بين ثنايا وقائعه وسطوره ما يقارب حقيقة الصورة التاريخية، هذا إذا لم نجد من بين ثنايا بعض تلك السطور ملامح واضحة لصورة تاريخية لا تستدعي القراءة الضمنية أو التأويلية، ولعل بالإمكان إذا ما أردنا التدقيق في ضبط العبارة والمصطلح والتحرز من التعبيرات والاصطلاحات الحدية أو المطلقة أن نقول مثلاً إن كتابة التاريخ يهيمن عليها المنتصر، أو تغلب عليها أو تطغى ثقافة المنتصر بنسبة قد تكون عالية - وهذا بحد ذاته اقرار بشوائب ونتوءات الكتابة التاريخية السياسية أو المسيسة - وذلك خير من القول بأن التاريخ يكتبه المنتصر، لأن المقولة على إطلاقها و عموميتها تشي بحكم قطعي حَدِّي لا مراجعة فيه ولا استئناف وكأنها نص مقدس، والمعلوم تواتراً أن المعرفة التاريخية هي معرفة مقارباتية نسبية، وأن للحقيقة التاريخية النسبية وجوه متعددة وطرائق تعبيرية متباينة.
ومادام أن مقولة " التاريخ يكتبه المنتصر" مقولة نسبية وغير مطلقة فإن جزءاً من الحقيقة التاريخية يتوفر بنسب متفاوتة لدى مؤرخي الجانب المنتصر، وذلك في ثنايا الكم الكبير والمتراكم من المبالغات والحشو والتضخيم والتمجيد للحاكم، والإشادة بسياساته ومواقفه وأدواره العامة، وتخليد مقولاته وانجازاته ومآثره، وفي الوقت ذاته سنجد مؤرخين على قدر من الصدق الواقعي غايتهم تدوين الواقع التاريخي كما شهدوه وسمعوه دونما تكلف وبمعزل عن المصلحة المتعينة من السلطوي وبعيداً عن إغراءاته وإملاءاته وضغوطه، وإن بقيت كتاباتهم حبيسة خزائنهم وضمن أصول محفوظاتهم ومقتنياتهم الخاصة.
د. أمين الجبر:
ربما أنَّ مقولة (التاريخ يصيغه المنتصر) تنطبق على التاريخ الرسمي وحسب، لإنَّ التاريخ الشعبي يشارك في صياغته كل فئات الشعب بطريقة أو بأخرى، لكن في هذا السياق يمكن لنا أن نطرح سؤالًا إشكاليًا يمكن مناقشته وهو: -
هل التاريخ علم؟ أو فلسفة؟ أو فن؟
من الذي ينتج التاريخ؟ هل التاريخ يشمل كل الظواهر الطبيعية والميتافيزيقية؟ أم أنّه مقتصر على نشاط البشر وحسب؟
د. رياض الصفواني:
مداخلة ممتازة وسؤال مهم، أتمنى من أساتذتنا وزملائنا إثراءه بما تجود به قرائحهم العلمية. من جهتي أرى أن التاريخ هو علم وفلسفة وأدب وفن، أي أنه يأخذ من كل هذه العلوم بطرف وهي بالمناسبة قيَم معرفية عُليا، وهو بالقدر ذاته وعاء يستوعب هذه العلوم أو القيم جميعاً ويتصدرها أيضاً. والتفصيل في ذلك يتطلب بعض الوقت.
د. أمين الجبر:
عنوان المقال: "ماهية التاريخ".
بقلم: د. أمين الجبر.
ثمّة مذاهب ونظريات متباينة ومتنوعة طرحت أشكالًا ابستمولوجيًا حول كنه وماهية التاريخ، نتج عنه من ثم سؤالًا جوهريًا ظل ومازال ملازمًا للفكر الإنساني ومطروحًا - بقوة - أمام البحث العلمي حتى الراهن فحواه: هل التاريخ علم؟ أم فن؟
إنَّ الأجوبة التي أعطيت في ذلك كثيرة حتى الآن. منها ما حاولت إثبات علميته، على إعتبار إنّه علم التتابع وليس علم التكرار ومنها ما نفت علميته على إعتبار إنَّ كل علم لابد له من منهج تجريبي وبرهان، وهلم جراء.
وإذا ما سلمنا - ولو جدلًا - بـ "علمية التاريخ" فلابد لنا من التوقف هنا قليلاً، وذلك بغية محاولة صياغة أو إيجاد مقاربة أولية حول ذات الموضوع، نحسب اعتمادها الموضوعية منهجًا وتناولًا، وابتعادها - قدر الإمكان - عن اعتباط التفسيرات الميتافيزيقية واللاهوتية المسبقة والمبسترة، والتي تقدم التاريخ في كليته في صورة اختزالية ومحشورة في ذهنية أيديولوجية محددة مكانيًا ولا متجاوزة، أو مادية تجريدية تجعل منه ديالكتيكية مكررة وحركية ميكانيكية لا واعية. فثمة آراء ونظريات فلسفية ومذاهب تاريخية شتى تناولت بنوع من التعمق والإسهاب موضوعة "علمية التاريخ". فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أنَّ نظرية "التعاقب الدوري للحضارات" لـ (فيكو) قد استندت في قراءتها للتاريخ على المسلمات الآتية: -
1 - تبدو عصور التاريخ كما لو كانت ذات خصائص عامة، فمع ان لكل عصر طابعه النوعي الذي يتضح في التفصيلات فإنّه بين العصور المختلفة خصائص مشتركة.
2 - كل فترة تاريخية تتبع أخرى على نفس الخط.
3 - الحركة الدائرية بين هذه الأدوار لا تعني أن مسار التاريخ كمجلة تدور حول ذاتها ولكنها حركة حلزونية، لأن التاريخ لا يعيد نفسه على نفس النمط ولكنه يأتي بصورة جديدة في شكل مخالف لما مضى. التاريخ في تجدد دائم والتعاقب الدوري فيه لا يسمح بالتنبؤ.
وإنطلاقا من ذلك كان يرى (فيكو) أنَّ الإنسانية لا تتقدم خلال أدوار التاريخ في خط مستقيم. كما أن التعاقب الدوري لا يعني أنّها ترتد إلى نفس البداية بل إنَّ مسارها في خط لولبي، وأنَّ العناية الإلهية هي التي أرادت أن يكون مسار التاريخ على نحو ما هو عليه (1). وأيًا كانت لاهوتية هذه النظرة أو ميتافيزيقيتها، فإنها - في اعتقادنا – تمثّل إرهاصًا أوليًا ومقدمات منهجية (تجريبية) لما سوف تثبته تاليًا النزعة الطبيعية (العلموية) من إِنَّ التاريخ في كليته علم التتابع وليس علم التكرار.
وخلاصة القول، أنَّ الافكار الرئيسية في فلسفة (فيكو) تعوزها الروح العلمية وأنّها منجذبة - في الإجمال - نحو اللاهوت بقدر ما هي مبتعدة عن العلم.
الأمر نفسه لدى نظرية "العناية" "التخطيط الالهي" لـ (سان أوغسطين) التي ترى أنَّ "التاريخ مسرحية ألفها الله ويمثلها الإنسان" أي إن العناية الإلهية هي التي تصوغ التاريخ ولا دخل للبشر فيها، وهي تقترب - إلى حدٍ ما - من رؤية (فيكو) في كثير من الجوانب، باستثناء معارضتها لمفهوم التعاقب الدوري حيث أكدت فردية الواقعة التاريخية ومن ثمّ استحالة تكرارها، وهي أول محاولة تعبر عن نظرة كلية إلى التاريخ وتفسير لمسار وقائعه، وهي بذلك أقرب إلى اللاهوت منها إلى العلم (2). وهناك العديد من النظريات التي تناولت موضوع التاريخ من أوجه متعددة ومن زوايا مختلفة ومتباينة بعضها اقتربت - إلى حدٍ ما - من الروح العلمية وبعضها افتقرت إلى ذلك، ليس مجال حصرها هنا. ولكن من باب التذكير بها سوف نستعرضها بصورة مقتضبة، ولعلّ من أهمها نظرية "التقدم" لـ (كوندورسيه) التي رأت إن التاريخ حركة دائرية من التقدم والتطور. ونظرية "بين التقدم والعناية الالهية" لـ (كانط) والتي حاولت إيجاد صيغة توفيقية بين النظريتين السابقتين. وكذلك نظرية "البعد الميتافيزيقي" أو "الديالكتيك" لـ (هيجل) التي ركزت على البعد الغيبي للتاريخ وحتمية الصراع أو الجدل. أما نظرية "المادية التاريخية" لـ (ماركس) فقد أضفت على التاريخ بعدًا ماديًا بحتًا. ونظرية "التحدي والاستجابة" لـ (توينبي) التي رأت أنَّ التاريخ ما هو إِلَّا استجابة طبيعية للتحدي والأزمات. وأخيرًا نظرية "العمران" لـ (عبد الرحمن بن خلدون) ذات الأطوار الثلاثة للتاريخ: البداوة، التحضر، التدهور.
(1) - Ency. Of philosophy;V&V111 P.244.
- (2) - هَرْنشو: ترجمة عبد الحميد العبادي: علم التاريخ، ص 26.
ا. فيصل علي سعيد:
هل فعلاً هي إشاعة أم أنهّا شبه واقع لأِنَّ الأحداث وكتب التاريخ تبين ذلك. المنتصر هو من يكتب، ويطمس، ويسخّر الكثير من الكُتاب، والبعض يفتي، والبعض يكتب وهي أدوات المنتصر.
أ.د. محمود الشعبي:
إنَّ التاريخ في بلاد العرب والمسلمين يكتبه ويؤثر فيه المنتصر وليس هناك حرية للمؤرخ المحايد أن يكتب وينقد ويحلل ويستنتج بحيادية في بلاد المشرق.
ولذلك تتميز الكثير من الدراسات والكتابات التاريخية التي تمت خارج بلاد العرب والمسلمين بأنّها أكثر موضوعية ومصداقية ومعلوماتية وأفضل نقدًا وتحليلًا واستنتاجًا لأنَّ من قاموا بها ليس عليهم مراقبة، إضافة إلى إجادتهم لعدة لغات ضرورية للكتابة والبحث.
د. رياض الصفواني:
نعم بروف، هذا هو الغالب على الكثير من المؤرخين، ومع ذلك لا نعدم أن نجد مؤرخاً منهجياً يتحلى بقدر من الجرأة والموضوعية في طرح ما يزمع طرحه من رؤى وتفسيرات واستنتاجات وأحكام كلما ابتعد عن المعاصرة و أوغل في القديم، والقديم النسبي أو الحديث بعض الشيء، لكّن كتاباته غير المتحيزة هذه تتسم إلى حدٍ ما بقلة التداول أو محدودية الانتشار لبواعث موضوعية خارجة عن نطاق المؤرخ؛ لكن هذه الكتابات ذات الموثوقية المعقولة أو المقبولة مرهونة بزمن ومعطيات سياسية واقعية ستظهر للعلن لحظة أن يغادر ذلك الزمن وتلك المعطيات المحكومة به وعليه.
د. أمين الجبر:
عنوان المقال: " النزعة العلمية للتاريخ ".
بقلم: د. أمين الجبر
يعد (فرنسيس بيكون) مؤسس المنهج التجريبي الحديث للعلوم الإنسانية وذلك حين وضع "أورغانونا جديداً" خلفًا لأورغانون أرسطو، أي آلة العلم، والذي بحث في علمية الطبيعة متمثلاً في البحث في كيفيات المادة وتحولاتها لا في ماهيتها، حيث أنّه لا يتم استكشاف الكيفية إلَّا عن طريق منهج الاستقراء المفضي في المحصلة إلى الوصول إلى القانون (1). ويتجلى ذلك من خلال تحديد منهج العلم والمتمثل في جمع أكبر عدد ممكن من الوقائع والأحداث التاريخية بغية الوصول إلى أحكام كلية. وكذلك في غاية العلم التي هي - بالضرورة - غاية برجماتية "عملية"، فالهدف في التاريخ هو تزويد الإنسان بأحكام تمكنه من إن يفهم معنى الأحداث الحاضرة في ضوء خبرته بالماضي واستشراف المستقبل. وأخيرًا استبعاد المؤرخون النظرة "الآخروية" التي تجعل غاية التاريخ في خارج نطاق العلم الحاضر. كما أصبح التاريخ ممثلاً لأفعال الانسان لا لأية قوة غيبية ليس إلَّا.
وإذا كان لـ (بيكون) الريادة في الناحية المنهجية فإنَّ (جون لوك) و(ديفيد هيوم) الأثر الأكبر في الأسس الفلسفية للطبيعة والتاريخ حيث أن المعرفة التاريخية تقوم على علاقة بين المادة التاريخية وعقل المؤرخ، وهو ما يعني لدى (جون لوك) و (ديفيد هيوم) إنَّ المعرفة التاريخية تقوم على المادة التاريخية لا عقل المؤرخ. كما أنّهما أنكرا فطرية الأفكار وهو ما جعلها أقرب إلى التاريخ كون المادة التاريخية واقعية تجريبية لا مجال فيها للميتافيزيقيا "اللا واعية" والقول بفطرية الأفكار.
في حين كان هناك أثر واضح للتقدم العلمي على ما يسمى بالنزعة الطبيعية في التاريخ حيث صاحب التقدم العلمي اصطدام مباشر بالسلطة الدينية وانعكس ذلك أيضًا على الدراسات التاريخية تمثل في سيادة النزعة النقدية في عصر التنوير كرد فعل لسلطة الدين لامس نقد الوقائع التاريخية المدونة في الكتاب المقدس (2). وكذلك سيادة النزعة الانسانية التي تعلي من شأن الإنسان بعد أن تحرر من سلطة الدين بحيث أصبحت أفعال الإنسان موضوع التاريخ لا دخل للقوى الغيبية في تحديد مسار التاريخ. وتوج ذلك بما أرساه (أوجست كونت) في مذهبه الوصفي الذي يعتبر العلم وحده المعرفة اليقينية واستبعاد كل تصورات تتجاوز عالم الواقع.
ومع ذلك كانت ثمة هوة تفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الانسانية. يعود ذلك إلى ما تتسم به الطبيعة من حتمية ونظام وبين عالم الإنسان وما يتميز به من حرية ومصادفة، فضلًا عن إنَّ الطبيعة "استاتيكية" ثابتة، بينما التاريخ "ديناميكية" متطورة ليس غير.
بيد أنَّ علم الاحياء قد ضيق - إلى حدٍ ما - الهوة بين عالمي الطبيعة والإنسان، باعتباره يشكل حلقة وسطى بين العلوم الطبيعية وبين العلوم الإنسانية. فقد ذهب (ناشيه دي لاموج) في كتابه (الانتقادات الاجتماعية) إلى القول: إنَّ التاريخ ما هو إلاَّ عملية تطور بيولوجي لا سوى. كما ذهب (أوتو أومان) إلى اعتبار إنَّ الإنسان كائن عضوي قبل كل شيء، وأنَّ المجتمع البشري في حقيقته ظاهرة بيولوجية، وأنَّ نظرية داروين عن تنازع البقاء والانتقاء الطبيعي وبقاء الأصلح كلها ضرورية لفهم الحياة الإنسانية (3).
في حين بلور (اوجست كونت) موقفه الفلسفي الوضعي حتى خلص إلى تقديم رؤية فلسفية للتاريخ الانساني تقوم على وجود قانون تطوري (حتمي) يتمثل في ما سماه بقانون المراحل الثلاث (اللاهوتية، والميتافيزيقية، والوضعية)، والذي يصفه في الدرس الأول من "دروس الفلسفة الوضعية" قائلًا: "اعتقد أنني اكتشفت قانونًا عظيمًا ورئيسًا، تخضع له معارفنا على نحوٍ حتمي"(4).
وعلى أيّة حال يمكن القول: إنَّ النزعة الطبيعية قد سرت على الدراسات التاريخية وأصبحت هذه النزعة تنشد أن يصبح التاريخ عِلمًا بالمعنى الفيزيقي للعلم، والذي يكون على هذا النحو: منهج تجريبي استقرائي، وإنَّ كان غير مباشر في حالة التاريخ، وحصر الواقعة المراد دراستها زمانًا ومكانًا، وكذلك حشد مادة تاريخية فيها حصيلة هائلة من التفصيلات التاريخية، وأخيرًا الوصول إلى أحكام كلية تمكّن من الاستفادة بها في الحاضر والمستقبل. وهو ما شهده علم التاريخ في عصر التنوير والذي تجلى في اكتمال الروح العلمية للتاريخ وانبثاق مناهجه المتعددة.
- (1) - احمد محمد صبحي: في فلسفة التاريخ، صـ 21.
- (2) - Descartes: Discours de la method p. 37
- (3) - السيد محمد بدوي: التطور في الحياة وفي المجتمع، صـ 114.
- (4) - Auguste Comte, Course de philosophie positive, premiere lecon, t. 1, Hermann, 1975,p.213.
د. أنور عباس الكمال:
أرى أنَّ هذا المنتدى يضم مؤرخي اليمن والسؤال الموجه: -
هل كل من المنتدى لم يكتب بحيادية وتجرد؟ (نرجو إعادة النظر في إطلاق الاحكام العامة).
أ.د. محمود الشعبي:
إنَّ الحوار والخلاف بين المؤرخين قد أوجد (كم) كبير من كتب التراث، ولذلك نرجو عدم فهم ما (يكتبه) الآخرون المخالف للبعض الآخر بعكس ما عن يقصده الكاتب. كما نرجو عدم تحريف ما (يكتبه) من نختلف معهم بالآراء.
بالنسبة لي أي دراسة حديثة ليس فيها مصادر متنوعة من لغات مختلفة فهي دراسة ينقصها مواد علمية وغير ذلك.
د. أمين الجبر:
عنوان المقال: "الدراسة الاختزالية".
بقلم: د. أمين الجبر.
ثمّة دراسات تاريخية اختزالية اكتفت في تناولها لموضوع التاريخ بالتركيز فقط على سير القادة والحكام وحسب، وقدمته على شكل سيرورات ذاتية وصيرورات سلطوية قهرية ليس غير. بمعنى آخر اختزلت، ربما بصورة متعمدة "الحركية التاريخية" في شخص الحاكم وبعض حاشيته أو أسرته، وتجاهلت بشكلٍ واضح حركية وفاعلية المجتمع ككل. بحيث بدى المجتمع - في هكذا قراءة - مهمشًا وقابعًا خارج نطاق التاريخ أو إنّه مجرد تابع وخاضع لإرادة الحاكم وأدوات سلطته وقهره وحسب.
ويتعزز هذا المفهوم إذا ما عَلِمنا أنّض التاريخ في أكثر تجلياته قد يصوغه المنتصر، وتشكّل ملامحه من ثم ثقافة النصر والهزيمة. وهذا ربما ما ينطبق على كثير من الدراسات ذات الطابع السيري الذاتي، التي تحفل بها العديد من الدراسات الاسلامية. واليمن - بالطبع - جزء منها.
د. فيصل حميد:
شكرًا دكتور رياض على المقدمة الأكثر من رائع.
لدّي بعض التخيلات - إن صح التعبير - حول الموضوع، أعتقد من الناحية التقنية والاحترافية أنَّ المؤرخ يهتم بالخبر والآثاري يهتم بالأثر البحت، ولكلٍ منهما أدواته ومهاراته، وأدوات الآثاري تؤهله بسهولة لأن يكون مؤرخًا محترفًا، بينما أدوات المؤرخ لا تفعل ذلك.
من ناحية يعتمد المؤرخ عن الآثاري في مراحل التاريخ خصوصا القديم حيث كانت المعلومة شحيحة على عكس التاريخ الحديث والمعاصر.
من زاوية أخرى فالناظر إليهما من مكان بعيد - أي من غير المتخصص - لا يمكن أن يرى ثمّة فرق بينهما؛ ذلك لكونهما يهتمان بالموضوع ذاته وهو الإنسان في الماضي.
كلمة الختام
كلمة الختام: مدير الجلسة.
د. رياض الصفواني:
وختامًا ... الشكر الجزيل لمن داخّل وقدم استفسارًا وساهم في المعلومة، والشكر ممتد أيضًا إلى كل من سيشارك في إغناء الموضوع وتوسيع أفقه، لتحقيق الفائدة العامة، فالموضوع حيوي وفي صلب تخصص الثلاث الشعب في التاريخ وكذلك الآثار.
مع عظيم تقديري للجميع