مصطلح المقاومة
د. أحمد قايد الصايدي
ماذا نعني بمصطلح (المقاومة):
الصراع بين الدول أمر طبيعي، مادامت هناك مصالح لكل دولة، تتعارض مع مصالح الدول الأخرى. وفي خضم هذا الصراع تتعرض السيادة الوطنية للدول الضعيفة وأمنها القومي وهُويتها للخطر، مما يفرض عليها اللجوء إلى المقاومة. والمقاومة هي الوسيلة التي يلجأ إليها طرف، للتعبير عن رفضه هيمنة طرف أقوى منه، يسعى إلى فرض إرادته عليه وتوسيع دائرة مصالحه على حسابه، وتعريض السيادة الوطنية للخطر (بالاحتلال أو بفرض التبعية) أو تعريض أمنه القومي (الثقافي - الاقتصادي - الاجتماعي) للاختراق أو هويته للمحو (بتدمير ثقافته وتشويه عقيدته وقيمه وتزوير تاريخه).
لقد ارتبط مصطلح (المقاومة) في الأذهان بالكفاح المسلح، في وجه عدوان خارجي أو احتلال أجنبي. وهذا الارتباط ناجم عن كون الوطن العربي أضحى، منذ بداية النشاط الاستعماري الأوربي، في مطلع العصر الحديث، أضحى ساحة صراع متواصل، بين الإرادة العربية، التي مثلها المقاومون المسلحون في مصر والسودان وبلاد الشام (سوريا وفلسطين ولبنان والأردن) والعراق واليمن والجزائر وليبيا والمغرب وتونس، وغيرها من ساحات الوطن العربي، وبين إرادات خارجية معتدية طامعة بالأرض العربية، موقعاً وثرواتٍ.
وفي زمن الانحطاط العربي الذي نعيشه الآن، وبعد أن سُدَّت جميع الطرق المؤدية إلى النهوض وتحسين حياة الإنسان العربي وصون حقوقه وكرامته، وازدادت شراسة المعتدين، وتكشف الحاكم العربي عن ضعف مهين وخيانة لمصالح الأمة وتبعية لأعدائها، تعاظمت مكانة المقاومة المسلحة، كخيار متاح أمام الإنسان العربي لاسترداد كرامته وحماية أرضه. الأمر الذي جعل المقاومة المسلحة تبدو وكأنها وحدها المقصودة بهذا المصطلح، وتضاءلت بجانبها، حتى التلاشي، الأشكال الأخرى من المقاومة، التي هي أعمق أثراً وأبعد مدى من المقاومة المسلحة، المتسمة بالآنية.
فالعمل المسلح المقاوم هو عمل تفرضه ضرورات آنية، ولذا فمن أبرز صفاته أنه محدود زمنياً، وينتهي بانتهاء العدوان العسكري المباشر، أو بتحرير الأرض من جيوش المحتل، وينقطع تأثيره، إذا لم يمتد عبر أشكال أخرى من المقاومة، التي من صفاتها أنها لا تتوقف ولا تنقطع، طالما بقي عالم الإنسان، بكل ما يعتمل فيه من جشع وطمع واستئثار القوى الكبرى بخيرات العالم، على حساب الشعوب الضعيفة، وهيمنة ثقافة الأقوياء على ثقافات المستضعفين، ومحاولة طمس هويات هؤلاء وفرض التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية عليهم.
من هنا فإن الالتفات إلى أشكال المقاومة الأخرى، أمر على درجة عالية من الأهمية. لأنها تتجاوز مجرد دحر المعتدي وتحقيق الاستقلال، بقوة السلاح، إلى الدفاع عن مقومات وجود الأمة، وعلى رأسها لغتها وعقيدتها وتاريخها وثقافتها ومصالحها. وهذا النوع من الدفاع يتطلب أسلحة أخرى، كالعلم والثقافة والوعي التاريخي والإدارة الحديثة والقيادة السياسية الرشيدة، ذات الأفق المستقبلي المستنير، ...إلخ.
لقد ميزت الكتابات السياسية بين الاستعمار القديم والاستعمار الجديد. ولكن ما يدور الآن على ساحة الوطن العربي، ولاسيما في العراق وفلسطين والسودان والصومال وشبه الجزيرة العربية والمغرب العربي، من احتلال معلن وغير معلن، ومن عدوان عسكري مكشوف، غير مسبوق في وحشيته وهمجيته، قد ألغى هذا التمايز، بل دمج ما كان يُنظر إليها كخصائص للاستعمار القديم، دمجها بخصائص الاستعمار الجديد.
فالاحتلال المباشر، وهو من سمات الاستعمار القديم، قائم اليوم، يعززه ما يُعتبر من سمات الاستعمار الجديد، وهو الاحتلال غير المباشر، المتمثل بفرض التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية وممارسة حكم الوطن العربي، بواسطة مجموعة من الحكام الموالين له، أي للاستعمار.
ونظراً لهذا الدمج، الذي حصل، بين شكلي الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، أصبح من واجب المقاومين العرب أن يتنبهوا إلى أن المقاومة المسلحة وحدها غير مجدية، مالم تُسند بأشكال المقاومة الأخرى، حتى لا تذهب التضحيات الجسيمة، التي يقدمها المقاومون المسلحون سدى، ويعود المعتدون من الشباك، بعد إخراجهم من الباب، يعودون عبر شاشات التلفزيون وأجهزة الراديو وأنواع المطبوعات، وعبر ما تقذفه مصانعهم إلى الأسواق، وما تسوّقه مراكز أبحاثهم وأجهزة مخابراته من شعارات ومصطلحات مضللة، وعبر الأنظمة الحاكمة، المرتبطة بالاستعمار، المذعنة لمشيئته.
هذا الواقع الجديد يستدعي، دون شك، أشكالاً متنوعة ومتعددة من المقاومة، وفقاً لتعدد وتنوع الجبهات المستهدفة. فمقومات وجود الأمة كلها مستهدفة. فاللغة والعقيدة والتاريخ والثقافة والأرض والثروة والنسيج الاجتماعي والنظام الاقتصادي والنظام التعليمي ووحدة الدولة واستقلالها ومنعتها وقوتها ورخاءها، كلها مستهدفة، ولا يمكن الدفاع عنها بالمقاومة المسلحة. وإن كان التخلي عن فكرة المقاومة المسلحة، عندما تكون ضرورية، يضعف كل صور المقاومة الأخرى ويجردها من قوة الفعل، ويجعلها أقرب إلى ثرثرات المثقفين والمأزومين والمحبطين. فمتى تكون المقاومة المسلحة ضرورية؟ ومتى يستوجب الموقف استدعاء أشكال المقاومة الأخرى؟ حتى لا تتحول المقاومة المسلحة إلى عنف منفلت، يلحق الضرر بالشعوب المقاومة، أكثر مما يلحقه بالغزاة المعتدين؟
المقاومة المسلحة، متى وكيف؟:
يخطئ من يظن أن المقاومة المسلحة خيار طوعي، يمارسه المقاومون، لمجرد أنهم يميلون إليها ويرغبون فيها. فالمقاومة المسلحة أشبه بالشر الذي لا بد منه، يفرضها المعتدي على المعتدى عليه، فرضاً يجبره على انتهاجها والسير في مسالكها الوعرة الخطرة، دفعاً لما هو أشر وأخطر، ودفاعاً عن الأرض والحرية والوجود، في وجه معتدي متوحش، لا يرحم ولا يقيم وزناً ولا اعتباراً للنفس البشرية ولا للكرامة الإنسانية ولا للحق والعدل.
ولتتضح لنا صورة هذه المعادلة: عدوان المعتدي المتوحش، ومقاومة المقاوم المدافع عن وجوده، يكفي أن نستحضر صورة الواقع العراقي. عدو همجي مشحون بالمطامع، متسلح بالشر، متذرع بالأكاذيب والخداع والتزوير واستغفال العقل والضمير الإنساني، يهجم على بلد مستقل ويدمر شعباً، لا يشكل أي خطر عليه. يدمر البنية التحتية بالكامل ويقتل مليوناً ونصف مليون من البشر ويشرد في الداخل والخارج، مالا يقل عن عشرة ملايين من العراقيين، ويغتال آلاف العلماء والكوادر المتميزة، في مختلف حقول المعرفة والتخصصات العلمية، من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات وعلماء كيمياء وفيزياء ...إلخ، ينهب المتاحف ويحرق المكتبات والمخطوطات ويسطو على الأرشيفات والوثائق، ليمحو حضارة الماضي، مثلما يمحو منجزات الحاضر، ويدمر مقومات الحياة الإنسانية في الحاضر والمستقبل، يمارس أبشع صور الوحشية والهمجية المقززة، في التعامل مع الأسرى، الذين أصبحوا ضعفاء بين يديه، مكبلين بالأغلال تنهشهم الكلاب المدربة وتجلدهم المجندات والمجندون الساديون وتصعقهم بأسلاك الكهرباء، في مشاهد نزف لها ضمير البشرية كلها. عدو متعطش للدماء، يشبع غريزة القتل ونزعة الشر لديه بتجميع عشرات ومئات الأبرياء وتكبيلهم بالأغلال وحصدهم جميعهم بالرصاص، ثم يقذف بهم في مقابر جماعية، أصبحت تغطي ساحة العراق كله. وكأنما يريد هذا العدو أن يحول العراق بأكمله إلى مقبرة جماعية واحدة. أمام عدو كهذا، يستهدف حاضر الأمة ومستقبلها، كما يستهدف ماضيها، تاريخها وحضارتها ومعالم فخرها واعتزازها وانتمائها، أمام عدو كهذا تغدو المقاومة المسلحة سبيلاً لا يمكن تحاشيه ووسيلة تُجبَر الشعوب مكرهة على اللجوء إليها، ولغة يخاطب بها المظلوم ظالمه، والمعتدى عليه عدوه المعتدي، المصرّ على الإيغال في عدوانيته ووحشيته وهمجيته.
في حالة كهذه، تغدو المقاومة المسلحة حقاً، تقره جميع الشرائع والقوانين السماوية والوضعية. بل تغدو واجباً دينياً وإنسانياً، لا بد من الاضطلاع به، رغم ما فيه من قسوة ومعاناة وألم ومرارة، تلحق بالمقاوم، الذي أجبره الظلم والعدوان على انتهاج هذا السبيل الصعب. ولكن هذه المقاومة المسلحة لن تبلغ غاياتها البعيدة، إذا لم تسندها وتفعِّلها وترشِّدها أشكال المقاومة الأخرى، وأهمها المقاومة الثقافية والمقاومة الاقتصادية والمقاومة السياسية. وهي أشكال يحتاج كل منها إلى بحوث منفردة، يسهم فيها الباحثون والعلماء المتخصصون.
فالمقاومة الثقافية، لا بد أن تغطي جبهات اللغة والتاريخ والعقيدة ومنظومة القيم. وتبدأ بالاهتمام بالتعليم والمناهج الدراسية، في المرحلة الأساسية (الابتدائية والإعدادية)، وتصعد اهتمامها حتى المرحلة الثانوية والجامعية والدراسات العليا، وتعطي اهتماماً خاصاً للبحث العلمي، فتغذيه بالكوادر العلمية المتميزة، وترصد له الأموال اللازمة، وتوظف مخرجاته في الرقي بالإنسان والنهوض الشامل في مختلف جوانب الحياة.
والمقاومة الاقتصادية، لا بد أن تسعى إلى إنهاء التبعية الاقتصادية للخارج، التي تتولد عنها كل أشكال التبعيات الأخرى. ولا يمكن إنهاء التبعية للخارج إلا ببناء قاعدة اقتصادية، صناعية وزراعية وتجارية متينة، تقلص دائرة الاعتماد على الصناعات والمحاصيل الأجنبية. ولحماية هذه القاعدة الاقتصادية لا بد من أن تسعى المقاومة الاقتصادية إلى وضع قواعد للحماية الجمركية للمنتج الوطني ودعم الرأسمال المحلي وتوجيهه نحو الاقتصاد الإنتاجي، وتقليص نشاطه الهامشي الطفيلي، المعتمد على تسويق منتجات الصناعات الأجنبية، مستسهلاً الربح السريع، الضار بمستقبل الاقتصاد الوطني. كما أن إنهاء التحكم الأجنبي بمصادر الثروة الوطنية، والعمل على فرض السيطرة الوطنية على ثروات الوطن وتسخيرها لتمويل الخطط التنموية ومشاريع بناء القاعدة الصناعية والزراعية، هو من أظهر صور المقاومة الاقتصادية. وهذه عملية ليست سهلة، بل هي من بعض الوجوه أكثر صعوبة من المقاومة المسلحة. ولنتذكر تأميم قناة السويس، وما ترتب عليه من عدوان عسكري ثلاثي على مصر، شنته دولتان من الدول العظمى في العالم، في ذلك الحين، (بريطانيا وفرنسا) ومعهما الكيان الصهيوني في فلسطين. ولنتذكر أيضاً تأميم النفط العراقي، الذي انتهت قصته بتدمير العراق.
أما المقاومة السياسية، فلا بد أن تشدد ضغطها على الأنظمة الحاكمة، وتسعى إلى إخراجها من عباءة الأجنبي ومن تبعيتها لسياساته ومخططاته وخدمة مصالحه. ولا بد من أن تواصل ضغطها لإجبار هذه الأنظمة على الالتفات إلى مصالح الوطن، قبل أي مصالح أخرى. وإذا لم يعط الضغط مردوده، فإن سعي المقاومة إلى تغيير الأنظمة الحاكمة، يغدو سعياً مشروعاً.
هذه بعض أشكال المقاومة، التي سيكون لها تأثير أبلغ من المقاومة المسلحة وأبعد مدى. ولكن المقاومة المسلحة، في ظرف معين، تصبح مدخلاً اضطرارياً وضرورياً لأشكال المقاومة الأخرى. وليس هناك ثمة شك، في أن أمة لا تقاوم، بمختلف أشكال المقاومة، حفاظاً على وجودها، بكل جوانبه الروحية والمادية، سيستهان بها وبتاريخها وتراثها وعقيدتها ومصالحها واستقلالها، وسيساء إلى رموزها الملهمة، كما يساء الآن إلى الرسول الكريم، وسيطويها التاريخ ويهيل التراب عليها ويلحقها بأمم اندثرت من قبلها.
صنعاء، أغسطس 2008م.
۞ فقرات من مقال طويل بعنوان (بالمقاومة في جبهة الوعي يكون الرد على الإساءة إلى الرسول)، كُتب في شهر أغسطس 2008م، ولم يتسن نشره في حينه. ونُشر مؤخراً في الجزء الأول من كتابي (أوراق متفرقة).