من القرية إلى عدن، جسر بين عصرين
بقلم: أ. د. عبد الشافي صديق محمد
عميد كلية الآداب – جامعة إب.
"وكان الدردوش هو نقطة البداية"
الذي أردته من هذا الكتاب "أن يكون أشبه بنقش متواضع محفور على جدار الزمن الذي عشته، لا تزيله الأيام ولا يمحوه كف الزمن". (أ. د. أحمد قايد الصايدي، من القرية، ص 11).
هو قدر غزير من البوح الشفيف المذاب في الحس التاريخي المرهف، يدلي به أ. د. أحمد قايد الصايدي. وهو كم من الرؤى الفلكلورية، التحم فيه المؤلف، كمؤرخ فلكلوري حاد البصر والبصيرة، لينتج سفراً رائعاً في التاريخ الاجتماعي، عنوانه: (من القرية إلى عدن، جسر بين عصرين).
وعبارة: "وكان الدردوش هو نقطة البداية " هي عبارة للمؤلف، اقتبسناها من متن مقدمة الكتاب، وهي في واقع الحال بداية للغوص؛ ليس في بركة الدردوش، بل للغوص في أعماق ماض قريب ملموس، كان حاضراً يضج بالحياة والبساطة والبراءة والجمال، آثر أن يتابعه المؤلف بكم هائل من مخزون الذاكرة، ورؤية العين، مصحوبة بروح مترعة بالحب لمجتمعها وبيراع مؤرخ ضليع، يأبى أن يسمح للزمن الجائر أن يمحو من ذاكرة الأمة ذلك الجمال وتلك العذوبة التي كانت. كما أنه في الوقت نفسه لا يرفض حتمية وفيض الجديد الواعي.
والمدهش أن المؤلف – وبعد بلوغه نضجاً أكاديمياً رفيعاً – رجع يجوب مراتع الطفولة وبواكير الصبا في القرية بقدمية ويتفحصها بعينيه ويغوص في جوفها بوعيه ويأبى أن يدمر النسيان عذوبة ذاك الزمان.
الكتاب ليس سيرة ذاتيه، ولا هو بالمذكرات الشخصية كما قد يظن البعض – لأول وهلة، متأثرين بما قد يوحي به العنوان، أو بما يمكن أن يتبادر إلى ناظرة الرائي من أسلوب السرد، بل الشاهد هو أن الكتاب – في حقيقته – رصد واع وأمين للتاريخ الاجتماعي، من أكاديمي عريق تميزت شخصيته بالارتواء حتى الإتراع، من مناهل متعددة راكمت ضروب وأجناس من الوعي والمهارات قلما اجتمعت في شخصية واحدة.
تراكم كل ذلك في شخصيته، بدءاً من طفولة قروية بريئة، بدأت (تفك الخط) في معلامة القرية. إلى تلمذة مدنية، في مدن متباينة الملامح والقسمات، من عدن، إلى القاهرة، ثم دمشق، ثم بون الألمانية. راح ينهل في شراهة، فتحول إلى البزة العسكرية، بعد بكالوريوس في العلوم العسكرية، بكل ما يمليه ذلك من صرامة ونظام. ولم يقنع، فأنهى دراسة الآداب (بليسانس) في الدراسات الفلسفية والاجتماعية، وبكل ما يفرضه ذلك من رومانسية ورقة. ثم كان من بعد ذلك الصعود إلى نيل الدكتوراه في العلوم التاريخية من جامعة (بون) بألمانيا. ثم اعتلاء كرسي نائب الأمين العام لاتحاد المؤرخين العرب في بغداد. ومن قبل ومن بعد أستاذاً وعميداً لآداب جامعة صنعاء.
كل هذه المراقي المتباينة والتخصصات المتنوعة والمتناظرة والمتغايرة، صهرت كاتبنا وبلورت شخصيته المتفردة، والحاملة لكل ما تعنيه العلمية والموضوعية، والمبدئية، والإنسانية من معان وقيم.
الكتاب وينابيع الدهشة:
تلفح ذاتك نسائم الدهشة، ليس فقط من سلاسة العرض ويسر ومتعة الأسلوب، بل أيضاً مما تناوله المؤلف من موضوعات عدة، ويخال إليك أنه لم ينس شيئاً وتعلم كل شيء.
تعرض الكاتب للقرية في ما مضى، وحياة الناس فيها من الجنسين، والطعام، والملابس، والأعياد، والأساطير، وفصول الزراعة، والأغاني، والألعاب، ومنتديات القرية، نهاراتها ولياليها، والقرى والعزل، وصلتها بالسلطة (الحكومة)، والهجرة والأوبئة والحياة السياسية والحراك الاجتماعي، ومقومات الحياة كافة.
ولم ينس المؤلف أن يرفد الكتاب بملحق ثر مليء بالإثارة والدهشة، التي يجب على علماء الاجتماع الإثنوغرافيا، والآثار والأنثروبولوجيا الوقوف عندها، وغير ذلك الكثير من المثير الشيق.
صحيح أنه في هذه العجالة، التي رأيت فيها التعبير عن استمتاعي بالكتاب، لا يمكن للمرء أن يعرض لكل ما في الكتاب ذي الـ (255) صفحة، أو حتى التعليق على كل ما ينثره الكتاب من أفكار وموضوعات وأسئلة. غير أنني سأستسمح القارئ الكريم في تناول بعض يسير منها، ومن ذلك:
جفاف مشهد الحياة:
بعد أوبته لزيارة القرية، بعد غياب يزيد عن العقدين، يقول الكاتب: "راعني ما رأيت، فلا أشجار باسقة، ولا أحراش كثيفة، ولا نقيق ضفادع، ولا زقزقات عصافير. لقد استحال كل شيء إلى موات ... والأشجار اختفت، بما كانت تحمله من أعشاش وطيور وزواحف وفراشات ملونة، والجفاف محا بكفه البساط الأخضر، الذي كان يغطي جبل الجَرَادي والجبال المجاورة له، إنه منظر مفزع".، ص 17.
بهذا الوصف الجهير حرك المؤلف في نفوسنا، نحن سكان العالم الثالث، ذات الصورة التي تصدمهم في بلادهم. أتراه هو فعل الطبيعة؟ أم جرم الإنسان؟ أم غياب التنمية؟ أم تهميش الأطراف والاهتمام بغابات الإسمنت في المدن ومركز السلطة؟
ويمضي الكاتب في عرض انطباعه الصادق، فيقول عن واقع هو الأمض ألماً: "والأكثر إفزاعاً منه أنني شعرت بأن الجفاف لم يصب الأرض فحسب، بل أصاب البشر أيضاً ... كانت الابتسامات تبدو باهتة وآثار الشقاء والهموم بادية على الوجوه المتغضنة ...". ص 17 .
لن أفسد شوق القارئ للوقوف بنفسه على ما أفرزه هذا الجفاف الإنساني من إفرازات، ألقت بظلها المقيت على الحياة.
الاتـشـاح بـالـسـواد:
وثمة ظاهرة أخرى استرعت نظر المؤلف، ومن شأنها أن تسترعي نظر أي باحث في الاجتماع، أو التاريخ اليمني، وتطوره الاقتصادي– الاجتماعي.
فقد وقف المؤلف عند الملابس، التي تغيرت إلى ملابس فقدت لمستها الخاصة بالإنسان اليمني والدالة على شخصيته، والتي فقدت "عبقها، وروعتها، ودلالاتها الإنسانية.... لقد غدا الجميع وكأنهم صبوا في قالب واحد... لقد اختفى ذلك الكرنفال البديع، من الملابس البسيطة المتنوعة الأشكال والألوان، وحل محلها نمط واحد أغلى ثمناً، ولكنه فاقد الدلالات وخال من المعاني." ص 17 _ 18.
ويعبر المؤلف عن ذلك بكل حزن وأسى، فيقول: "أما ما أراه أمامي فهو أمر مفجع، شكلٌ واحد لجميع النساء، وشكلٌ واحد لجميع الرجال .... الجميع يرتدون ما يمكن تسميته بـ (اليوني فورم)". ص 18.
بديهي أن هذه (ظاهرة) لا يقدر على التقاطها إلا يمني، عالم بالتاريخ الاجتماعي لبلاده. والحال كذلك، فإن هذه (الظاهرة) من شأنها أن تستوقف الزائر لليمن، وخاصة فيما يراه من اتشاح جميع نسائها بالسواد، وهو أمر لم يكن سائداً في ماضي اليمن القريب جداً. فكل المراجع التاريخية اليمنية تشير إلى أن نساء اليمن لم يكنّ متشحات بالسواد، كما هو عليه الحال الآن.
ترى، ماهي الأسباب التي حدت بالنساء للانتقال من الملابس الملونة إلى هذه الملابس السوداء، من قمة الرأس حتى أخمص القدم (فنساء ليبيا مثلاً يتدثرن بالملابس البيضاء، وعلماء ليبيا لهم في ذلك تفسيراتهم. وعليه؛ ما عساها تفسيرات أهل اليمن؟ أتراها بداع التدين أم بدواع أخرى؟ فالغالب أنها ليست بالصحوة الدينية، فأهل اليمن هم حملة لواء الإسلام إلى كل الأمصار، منذ فجر الإسلام. ويقيننا أنه لا يظن أحد أن بمقدوره (المزايدة) على أهل أليمن في دينهم. فهلا انبرى علماء الاجتماع في اليمن للإدلاء بالدراسة والتقصي؟
أدوات المعيشة في الزمن الريفي الطيب:
أشياء لا تخطؤها العين ولا تنكرها النفس، أتى عليها الكاتب بمزيد من الحميمية والوفاء، وهو في ذلك محق، لأنها كانت جزءاً من حراكنا اليومي، نلجأ إليها فلا تخذلنا، فكانت خير معين للناس في معيشتهم، ولكنها اليوم تقبع في زوايا (الماضي الذي كان). تعاني الجمود والعزلة والإهمال والنكران، إذ آلت لأيام خلت ... وإن كان اليسير منها لا زال يقاوم في الريف اليمني مثل:
(المَضمِد)، (السَّحب)، (المَودل)، (الثُّمنة)، (الخِفرة)، (الدُّبية)، (الطَّبون)، (المِحواش)، (المَربَشة)، (القَصيص)، (الجَفنة)، (المَسمَدة)، (الفِتِر)، (الجَمنة)، (الدَّوح)، (المَزوع)، (المَستف)... وغيرها... وغيرها... الكثير. وهيهات لبنات المدن والجامعيات أن يعرفن هذه الأشياء، وقد يظنّنْنها مفردات أعجمية أو علها ضرب من رطن الشعوذة.
هذه الأشياء الجميلة، وإن تضاءل دورها، لا ينبغي السماح للزمن بطمرها. لقد سعى بعض الحادبين إلى الاحتفاظ بها، بكل الود والإجلال، في متاحف صغيرة، وعلى الدولة أن تفرد المتاحف الكبيرة اللائقة بها، صيانة لذاكرة الأمة وحفظاً لثقافتها.
المنسي من إبداعات العقل الجمعي في الصراع السياسي:
خلال النزاع السياسي في اليمن، واحتدام الصراع على السلطة، انبثق كثير من بواكير ثقافة (الوعي الجمعي)، التي أنتجت صوراً من الأدب الشعبي؛ شعراً وأهازيجاً، وأراجيزاً، وليدة الموقعة هذه أو تلك. وفي هذا يقول المؤلف: "لقد أدركت في طفولتي أهازيج، ما أزال أتذكر بعضها، ومعظمها انطلق بعد فشل انقلاب 1948م، ومنها:
يا سلامي ست في ست وأربع للحصون العالية المنيفة
كيف صنعاء بعد قتل الخليفة؟
خربوا طـيقانها والشـبـابـيك والوزير تحرم عليه الوظيفة
والوزير هو عبد الله بن أحمد الوزير إمام الانقلاب".
ومنها أيضاً جانب هام من جوانب تقليد (الفيد) إذ يقول:
أبصر أبصر قد احنا في المناظر أبصر أبصر قد احنا شغل ثاني
"وكان هذا هو لسان حال رجال القبائل، الذين نهبوا صنعاء وصعدوا إلى دورها العالية وغرفها الوثيرة، المسماة مناظر، ومفردها منظرة"، فرجل القبيلة "يفخر بما أنجزه، ويريد أن يراه كل العالم". ص 28.
إنَّ مثل هذه الأحداث والأقوال، التي لم تدون، لا بد وأن يأتي زمن وقد نسيها الناس ما لم يدونوها. وهذا واجب الحريصين على حفظ ذاكرة الأمة، من المؤرخين والاجتماعيين.
اليمنيون وإدمان الهجرة الغايات والمآلات:
لا جدال أن الشعب اليمني هو أحد شعوب الدنيا، التي جبلت على الهجرات، ويمكن الزعم يقيناً أن ما من مكان في الأرض، تشرق فيه الشمس، إِلَّا وجدتَ فيه إنساناً يمنياً، رغم كل ما في الهجرة من فوائد ومضار. وهذه حقيقة يقرها كل أهل اليمن.
ولعله من باب الطرفة يجدر بي أن أذكر ما قاله شاعر شعبي سوداني، وقد دأب أهل السودان واليمن أن يتقاربوا في المنافي، ربما لما في الشعبين من نوازع البساطة والعفوية قال:
الشيء الغريب الـ في زمن هماني كل ما قلبت حجر تلقى تحته يماني
أي أنك لا بد من ملاق لليمني أينما يممت وحللت.
ولم يفت على المؤلف التعرض لظاهرة الهجرة اليمنية، فأفرد في ملحق الكتاب مذكرات مهاجر يمني تحت عنوان (أوراق من حياة بحري)، الصفحات من 193 – 222.
وبمتعة زاخرة وشغف لاهث، ودهشة مذهلة، ستجد نفسك متابعاً لأوراق هذا المهاجر (البحري)، الذي جاب العالم من أقصاه إلى أقصاه، كبحار على متن سفن شتى، منها الحربي ومنها التجاري، ولقي ما لقي من الأهوال والأمور القاسيات، من هيجان المحيط ومكر المياه، وواجه الفناء عشرات المرات.
والقارئ لهذا الجزء من الكتاب يؤول به إلى خاطرة واحدة مفادها؟ لماذا لا يدرس علماء اليمن هجرات أهليهم؟ لماذا لا يلجأون إلى الأحياء منهم، قبل فوات الأوان، لتدوين هذا التراث الثري والمتفرد؟