ابن العديم وكتابه بغية الطلب في تاريخ حلب – القسم الثاني
إبراهيم السيد شحاتة عوض
مؤلفات ابن العديم:
رأينا من خلال ترجمة حياة ابن العديم أنَّه اتَّصل بالعلم وأهله منذ صباه، وسَمِعَ على شيوخٍ أجِلاَّء، وأنه قد سافر لإكمال التحصيل إلى أقطارٍ عديدة، من أهَمِّها: العراق، والشام، والحجاز، وأنه قد أخذ العلم عن علماء أعاظم، ثم عاد ونال مناصِبَ إدارية وسياسية في حلب [1]، كما أنَّه كان يَمتلك مكتبةً زاخرة بشَتَّى أنواع الكتب؛ ولذلك فقد صرف ابنُ العديم أكثرَ عمره فيما ينفع العلم وأهله، فقد كان يؤلف حينًا، ويجمع حينًا، وينقل من الكتب النادرة وغير النادرة، ثم يستنسخ لغيره ما يقع عليه [2].
وقد ذكر ياقوت الحموي من مؤلفات ابن العديم عِدَّة كتب مما وصل إليه، وقد وصل إلينا من هذه الكتب أكثرُها، وضاع منها أقلها، ومن أهم هذه المؤلفات:
- كتاب الدراري في ذكر الذراري.
- كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة.
- كتاب ضوء الصباح في الحث على السماح.
- كتاب في الخط وعلومه ووصف آدابه وأقلامه وطروسه.
- كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري.
- تذكرة ابن العديم.
- الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب.
- كتاب تبريد حرارة الأكباد في الصبر على فقد الأولاد.
- بغية الطلب في تاريخ حلب.
- زبدة الحلب في تاريخ حلب.
كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب:
ذكره ياقوت الحموي وهو ينصف لتصانيف ابن العديم، قال: "كتاب تاريخ حلب في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها، ومَن كان بها من العلماء ومَن دَخَلَها من أهل الحديث والرِّواية والدِّراية والملوك والأمراء والكتاب" [3].
وذكره ابن العديم نفسه في كتابه "الإنصاف والتحري"، فقال: "ومن أراد استقصاء أخبارهم وفضائلهم وأشعارهم، فعليه بكتابي المُطَوَّل في تاريخ حلب، ففيه مقنع لمن قصد شيئًا من ذلك أو طلب" [4].
وكذلك فقد ذكره ابن خلكان، ونقل عنه في عِدَّة مواضع، منها أنَّه قال في ترجمة وهب بن وهب: "وقد نقلتها من خط القاضي كمال الدين بن العديم من مسودة تاريخه" [5]، وقال في ترجمة صلاح الدين يوسف بن أيوب: "ورأيت في تاريخ حلب الذي جمعه القاضي كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد المعروف بابن العديم الحلبي ..." [6].
وذكره السخاوي، فقال: "وللكمال عمر بن أحمد بن العديم في تاريخها كتاب حافل سَمَّاه "بغية الطلب" وقفت على كثير منه .." [[7]].
خطة الكتاب:
بدأ ابن العديم "تاريخ حلب" في صدر شبابه، وقضى عمرَه وهو يكتب فيه حتى توفي فلم يتمَّه، وتركه مسودة لم يبيضه، وقد كان ينتظر أن يتاح له إتمامه على الخطة التي رَسَم، ولكن الأحداث التاريخية واشتغاله بالسياسة والسفارة حالت دون تحقيق أُمنيته؛ ولذلك ظل الكتاب مبتورًا [8].
غير أن الأجزاء الموجودة -وهي غير قليلة- ترشدنا إلى خطته وطريقته، فقد بدأ أول كتاب "بغية الطلب في تاريخ حلب" بتحديد حلب ومُعاملاتها ومُضافاتِها لعهده، فتحدث عن أنطاكية وثغورِ الشام والجبال والآثار، والبحار والأنهار، والبحيرات، وذكر الرصافة، وخناصرة، وبالص، والمعرة، ومعرة مصرين، وطرسوس، والباب، وحماة، والمصيصة، وأفاض في ذكر الحصون وغيرها [9].
ثم بدأ التَّراجِمَ على الحروف، فصنع كما يصنع المحدِّثون بذكر الإسناد المتسلسل؛ لإثبات ترجمة الرجُل، وما عرف عنه، وما نقل من كتبه، وما وصل إلى سَمعه من حديثه وشعره وكتبه ونقوله [10].
فابن العديم لم يثبت خبرًا إلا ذكر المصدر الذي استقى منه، ولم يورد شعرًا إلا وصف لنا الديوان الذي وصل إليه، أو الكتاب الذي قرأه فيه، ولم يسرد حديثًا أو حكاية إلاَّ قال: سمعت، قرأت، أخبرنا، حدثنا، حضرت، شاهدت، أنبأنا، قال لي عمي، وقال لي الوزير، وقال ابن العجمي، ووقع إلَيَّ من كتاب فلان، وسَيَّر إلَيَّ القاضي أبو محمد الحسن بن إبراهيم الخشاب أوراقًا بخطه، ذكر أنَّه نقلها من فلان وفلان، إلى أقصى ما يستطيع أن يصنعه رجل ثِقَة، ومؤرخ حجة، ومحدث ثبت، وقاضي منصف حين يعمل التاريخ [11].
ومن هنا تأتي أهميةُ هذا الكتاب وقيمته، فهو سِجِلٌّ مفصل لتاريخ الشام على اختلاف عصورها، وتاريخ عظيم لمدينة حلب ورجالها ومن مَرَّ بِها، ومن دفن فيها، ومن تحدث عنها [12].
وهو بذلك قد أحصى المصادر التي نقل عنها، واستقى منها، ذاكرًا الخط والورقة، ومقدار ما نقل، مُعززًا ذلك بالإسناد المتواتر، وهو بذلك قد حفظ لنا أثْمن ما في هذه المصادر والكتب التي نقل عنها، والتي نفتقدها اليوم فلا نجدها، ولهذا عَدَّه المؤرخون لعصره وبعد عصره حجةً في تاريخ حلب، استوعب أيامَها منذ صدر الإسلام إلى منتصف القرن السابع الإسلامي، وكل من تحدث عن هذه العصور وألَمَّ بتاريخ حلب، اعتمد على كتاب "بُغْية الطلب في تاريخ حلب" لابن العديم [13].
أثر الكتاب في التواريخ:
لقد أثار هذا الكتابُ اهتمامَ المؤرخين الذين أفردوا لحلب تاريخًا أو ذكرًا، فقد سار على خطاه ونهجه كثيرٌ ممن جاء من بعده، فسلكوا سبيلَه، فمنهم من وفِّق ومنهم من أخفق، ومنهم من أعاد في كتابه نص ما ذكره ابن العديم، ومنهم من لخص منه، وأكمل عليه إلى زمنه [14].
ومن هؤلاء الذين أخذوا عن ابن العديم وساروا على نهجه، ابنُ شَدَّاد (المتوفَّى سنة 684هـ)، الذي كتب "الأعلاق الخطيرة في ذكر أُمراء الشام والجزيرة" في أجزاء عدة؛ حيث وصف فيه حلب والشام، وفلسطين والجزيرة، وألف ابنُ خطيب الناصرية (المتوفَّى سنة 843هـ) "الدر المنتخب بتكملة تاريخ حلب"؛ حيث ترجم فيه للرِّجال بعد ابن العديم حتى عصره، وتبعه ابن الشحنة (المتوفَّى سنة 883هـ)؛ حيث اختصر من ابنِ العديم، وأخذ من فصوله وأوجز في كتابٍ سَمَّاه "الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب"، ثم جاء ابن الحنبلي (المتوفَّى سنة 971هـ) فترجم للرجال حتى عصره في كتابه "در الحبب في أعيان حلب" [15].
وكتب المعاصرون من رجال حلب تاريخًا لها، فألف الأستاذ راغب الطباخ كتابًا في سبعة أجزاء سماه "إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء"، وألف معاصره المرحوم الشيخ كامل الغزي كتابًا سماه "نهر الذهب في تاريخ حلب"، وهو في أربعة أجزاء، وغيرهم [16].
ومن هنا نعرف كيف أثَّر ابن العديم فيمن جاؤوا من بعده، فقد كان لهم بمثابة المصدر الذي ساروا على نهجه وطريقته، واعتمدوا عليه في أخذ كثيرٍ من معلوماتهم، ومن هنا تتضح أهمية كتابه.
المصدر: موقع قصة الإسلام
الحواشي
[1] عمر رضا كحالة: "معجم المؤلفين"، ج2، ص 553.
[2] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص207- 208.
[3] ياقوت الحموي: "معجم الأدباء"، ج4، ص456.
[4] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 50.
[5] ابن خلكان، "وفيات الأعيان"، ج3، ص 183، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، (1977م).
[6] المصدر السابق، ج2، ص 376.
[7] السخاوي: "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ"، ص 157، تحقيق: محمد عثمان الخشت، مكتبة ابن سينا بالقاهرة (د. ت).
[8] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 56، د. شاكر مصطفى: "التاريخ العربي والمؤرخون"، ج2، ص 264، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 209- 210.
[9] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 56، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 210.
[10] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 210.
[11] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 56، د. فتحية النبراوي: "علم التاريخ"، ص 116.
[12] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص210.
[13] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص57، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص210- 211.
[14] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 57.
[15] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 211.
[16] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 58.