قصة معركة فتح المدائن
(الجزء الأول)
أ.د. راغب السرجاني
موقعة المدائن كان البداية الأولى لانتشار الإسلام في بلاد فارس، ودخل المسلمون إيوان كسرى, وفر يزدجرد هاربًا، فما أسباب انتصار المسلمين على الفرس؟
بين فتح المدائن وغزوة الخندق:
ذكرنا أنه بعد شهرين من الحصار توصل المسلمون إلى سلاح جديد يعينهم على فتح هذه المدينة الصعبة؛ فقد أشار بعض الفرس المسلمين على سعد بن أبي وقاص بأن يستعمل سلاح المنجنيق (والمنجنيق لم يكن معروفًا عند العرب، وهو نوع من الأسلحة الثقيلة يشبه الدبابات في عصرنا؛ فالمنجنيق جهاز ضخم جدًّا مثل المقلاع يلقي بالأحجار الضخمة داخل الحصون)، فصنع المسلمون أكثر من منجنيق، ووضعوها جنبًا إلى جنب على حدود مدينة بَهُرَسِير، وبدؤوا في جمع الحجارة الضخمة ووضعها في مقلاع المنجنيق ورميها على مدينة بهرسير، وبدأت هذه الحجارة تتخطى السور، وتقع على أهل بهرسير.
صبر أهل بهرسير بعض الوقت، ولكن بعد أن زاد عليهم الضرب، وكثرت أسهم المسلمين المطلقة عليهم بدؤوا يفكرون في الاستسلام، وبالفعل بعدما اقترب الشهران من نهايتهما، خرج رسول منهم يطلب الاستسلام، ولكن على أساس أن يصبح للمسلمين كل ما هو في غرب دجلة، وألا يقاتل الفرسُ المسلمين على هذه المنطقة بعد ذلك، وللفرس ما في شرق دجلة.
وهذا - بلا شك - لأنهم لم يفهموا الرسالة التي جاء بها المسلمون، فالمسلمون جاءوا لكي يفتحوا هذه البلاد حتى ينشروا الإسلام في كل الأرض؛ فحدود الفتح الإسلامي لن تقف عند دجلة، ولن تقف عند العراق، ولن تقف عند فارس، ولن تقف عند أية حدود، حتى يَعُمَّ الإسلام الأرض كلها.
وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون هذا العرض، فقال لهم الفرس: أما شبعتم، لا أشبعكم الله؟! فبدأ المسلمون يستكملون الضرب بالمجانيق والسهام على الفرس، فما كان من الفرس إلا أن تسللوا خلسة من مدينة بهرسير على هذا الجسر العائم من بهرسير إلى أسفانبر، وتركوا المدينة خالية، والمسلمون مستمرون في ضرب المدينة، ولم يعلموا أن المدينة خالية حتى خرج لهم أحد الفرس طالبًا الأمان، فأمَّنه المسلمون، فقال لهم: إن المدينة أصبحت خالية. وبالفعل تسلق المسلمون الأسوار، ودخلوا مدينة بهرسير؛ فوجدوها - فعلاً - خالية وبها كميات ضخمة من الأسلحة، وكميات ضخمة من العتاد، كان من الممكن أن تعين الفرس على الصبر على القتال والحصار، لكنهم فقدوا حمية القتال وفقدوا الروح القتالية، وانهزموا هزيمه نفسية شديدة أمام هؤلاء الأبطال المسلمين المصِرِّين على هذا الحصار؛ وهربوا جميعًا إلى منطقه أسفانبر.
دخل المسلمون بهرسير بعد أن تسلقوا الأسوار، فدخلت الجيوش الإسلامية الواحد تلو الآخر قرب منتصف الليل، وقد ذكرنا أن جيش المسلمين قد وصل في هذه الفترة إلى أكبر قوة إسلامية على وجه الأرض في هذه اللحظة، حيث بلغ قوامه ستين ألف جنديٍّ مقاتل مسلم، وقد كان أكبر جيش للمسلمين قبل ذلك جيش سيدنا أبي عبيدة بن الجراح في موقعة اليرموك حيث كان 38 ألفًا..
فبعد انتصار القادسية تَوَالى المدد على سيدنا سعد بن أبي وقاص من المدينة ومن كل الجزيرة العربية بعد أن كُسِرَت شوكة الفرس، وعلا شأن المسلمين، وبدأ المسلمون الذين كانوا مترددين في الخروج لقتال الفرس يخرجون للقتال مع الجيش الإسلامي، 60 ألف مقاتلٍ مسلمٍ عبروا هذا السور تسلقًا ودخلوا بهرسير، ولم يجدوا فارسيًّا واحدًا في المنطقة بأكملها، وأخذوا يزحفون على كل المدينة حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة الغربي، ونظروا منه في منتصف الليل إلى الناحية الأخرى من الشاطئ، فوجدوا مدينة أسفانبر، فصاح ضرار بن الخطاب: الله أكبر! هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.
فقد رأوا من هذه المنطقة على الناحية الأخرى إيوان كسرى، وهو بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 مترًا (أي نحو عشرة أدوار في هذا الوقت من الزمن حين كان العرب كلهم يسكنون في الخيام أو في بيت من دور واحد مبني من طوب لَبِن، لكن هذا البناء كان ارتفاعه من 28 إلى 29 مترًا)، وقبته البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق هذه الأشجار؛ لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئًا وسط الجهة الأخرى؛ فصاح ضرار بن الخطاب: هذا ما وعد الله ورسوله. يتذكر ما وعد به الله ورسوله المسلمين في غزوة الخندق.
ونتذكر يوم الخندق:
وكان ضرار بن الخطاب هذا - وقتئذٍ - مشركًا، وكان في جيش قريش الذي يحاصر المدينة، ولكن ضرارًا علم بعد ذلك بهذا الوعد بعد أن أسلم، ونتذكر جميعًا ما حدث يومَ الخندقِ، ونسترجع معًا أن الرسول بعد أن وافق على اقتراح سيدنا سلمان الفارسيِّ بحفر الخندق حول المدينة، بدأ المسلمون جميعًا يحفرون في هذا الخندق حتى وصلوا إلى صخرة ضخمة استعصت على المسلمين، وكانت هذه الصخرة من نصيب سلمان الفارسي، فاستعصت عليه وكان شديد الساعد قوي البنيان، ومع ذلك لم يستطع تحطيم هذه الصخرة؛ فذهب إلى رسول الله يستأذنه في تغيير اتجاه الحفر ليتجنب هذه الصخرة، ولكن الرسول ذهب بنفسه وعاين الموقف والمكان، ثم طلب معولاً، وبدأ يحطم هذه الصخرة بنفسه؛ فضرب الصخرة ضربة شديدة بالمعول، فبدأت الصخرة تتفتت وخرج منها وهج شديد أضاء -كما يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه ما بين لابتي المدينة، يعني نوَّر المدينة كلها؛ فصاح الرسول: "الله أكبر! أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء"، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: "الله أكبر! أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى".
وهذا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: "الله أكبر! أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء". وبشَّر المسلمين في هذا الوقت وهم محاصَرون من قريش من كل جانب، والمسلمون يتخطفهم الخوف والجزَع والرعب من دخول المشركين عليهم المدينة، ومع ذلك - في هذا الوقت - يبشرهم أنهم سيفتحون بلاد الروم أعظم قوة على الأرض، ويفتحون فارس، ويفتحون اليمن؛ فيقول المؤمنون في هذا الوقت: هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.
ثم يكرر المقولة ضرار بن الخطاب بعد أن أسلم، ويقول: الله أكبر هذا ما وعد الله ورسوله. سبحان الله! تأتي هذه المقولة منه، فتُذكِّر المسلمين بهذه البشرى العظيمة، ويبدءون في تكبير الفتح، وهو: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
هذا هو تكبير الفتح، وهذه الصيغة سنة عن الرسول أن تُقال في الفتح، وليس سنة أن تُقالَ في العيد؛ لأن تكبير العيد هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد فقط؛ ولكن المسلمين -لعذوبة هذه الكلمات- تعوّدوا أن يقولوها في العيد، وليس هذا هو الأصل.
بدأ ستون ألف مسلم يكبرون هذا التكبير في صوت واحد استبشارًا بفتح المدائن، وحتى الآن لم يعبر المسلمون إلى الناحية المقابلة، ويصل هذا التكبير إلى الناحية الأخرى إلى يزدجرد كسرى فارس، وإلى جنود فارس؛ فيزيدهم رعبًا فبدءوا يفكرون، فالمسلمون على الأبواب، وصوتهم صوت التكبير يرعب الفرس رعبًا شديدًا، وقد نُصِرَ عليه الصلاة والسلام ونُصِرَ أصحابُه بالرعب.
فتح مدينة أسفانبر:
بدأ الفرس يُصابون بالرعب رغم أنهم كانوا مستعدين لملاقاة المسلمين، فقد جمعوا السفن الموجودة في دجلة على مسافة 150 كيلو مترًا من المدائن جنوبًا، و170 كيلو مترًا من المدائن شمالاً على شاطئ دجلة أمام المدائن على الناحية الشرقية؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يسيطروا على أية سفينة من الشمال أو الجنوب، ليعبروا بها إلى الضفة الأخرى، كما قطع الفرس الجسر العائم عند عبورهم من مدينة بَهُرَسير إلى مدينة أَسْفَانِبْر. فماذا يفعل سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ليعبر بجيشه؟
هذا العبور كان - تقريبًا - في شهر مارس، وشهر مارس بداية الفيضان في نهر دجلة، ولكنه لم يكن قد وصل بعدُ إلى النهر، وكان في نهر دجلة بعض المخاضات التي من الممكن أن يسير فيها المسلمون؛ فأشار بعض الفرس على سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يعبر بالجيش الإسلامي - وقوامه ستون ألفًا - نهر دجلة من إحدى هذه المخاضات، لكن سيدنا سعد بن أبي وقاص يتصف بالتريث والتمهل والحرص على الجيش الإسلامي؛ لذلك كان مترددًا ترددًا شديدًا في عبور هذا النهر العظيم بهذا الجيش، فلا سفينة ولا جسر ولا شيء يعينهم على العبور، ثم استخار الله، ونام ليلة، فرأى رؤيا فيها خيول المسلمين تعبر نهر دجلة، والمياه تضرب في هذه الخيول (أي أن المياه شديدة والأمواج متلاطمة)، ومع ذلك رأى خيول المسلمين تعبر هذا النهر، فاستيقظ من النوم فقال: إن هذا ردُّ الاستخارة، وإن هذه الرؤيا رؤيا خير إن شاء الله. وقرَّر بعدها أن يعبر نهر دجلة بالخيول.
كان هذا - بلا شك - قرارًا عجيبًا أن يعبر بـ60 ألفًا بالخيول؛ فالخيول تجيد السباحة، لكن المسلمين أنفسهم لا يجيدونها في غالبيتهم؛ لأنهم يعيشون في الصحراء، ففي العبور - إذن - مخاطرة شديدة، لكن لم يكن أمام المسلمين حَلٌّ آخر يوصِّلُهم للناحية الثانية للمدائن وهم مصممون على فتح المدائن؛ فقرر سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه العبور، بينما كان يزدجرد في الناحية الأخرى مطمئنًّا تمام الاطمئنان أن المسلمين لن يعبروا هذه المنطقة قبل أربعة أو خمسة شهور على الأقل؛ لأن الفيضان ينتهي في أوائل أكتوبر وتبدأ المياه عندها في التراجع. ويتمكن المسلمون من عبور النهر على الخيول، وعندما بدأ الجيش بالعبور فاجأهم الفيضان قبل موعده بأسبوعين أو ثلاثة، ولكن سيدنا سعد بن أبي وقاص لم يمنعه هذا الفيضان أن ينفذ وعده للمسلمين بعبور هذا النهر؛ فجمع المسلمين كلهم، وقال لهم: "إني قد قررت أن أعبر بكم هذا النهر، فما زلتم في هذا المكان وهم في المكان الآخر ومعهم السفن يناوشوكم". يعني: ما دامت السفن معهم سيظلون في هجوم دائم عليكم في كل وقت ويرجعون، ولكن لو عبرنا لهم فسوف تكسر شوكتهم في مدينتهم؛ فوافق المسلمون على ذلك، وهذا الموقف يشبه موقف العلاء بن الحضرمي قائد الجيش السابع من جيوش الردة لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان قد فتح البحرين عبورًا كذلك على الخيول من غير سفينة ولا شيء؛ فقد ذكرنا أنه عندما ذهب ليفتح البحرين فَرَّ الناس بالسفن، فعبر الخليج العربي إلى البحرين بالخيول، لكن العلاء كان معه جيش من ألفين، أما سيدنا سعد فمعه ستون ألفًا.
بدأ الجيش في العبور - ويعلم سيدنا سعد بن أبي وقاص أن الفرس قد وضعوا على حدود مدينة "أَسْفَانِبْر" خارج السور على شاطئ نهر دجلة قوات فارسية للدفاع عن مدينة أَسفانبر، وهو يريد أن تصل أقوى فرقة من فرق المسلمين إلى شاطئ دجلة في الناحية الثانية حتى تلاقي هذا الحرس الفارسي لقاءً قويًّا عنيفًا - وكان عند سيدنا سعد بن أبي وقاص كتيبة تسمى "الخرساء" وهي أقوى كتائب المسلمين، وكان سيدنا سعد بن أبي وقاص يوكل لها المهام الصعبة، وتُسَمَّى الخرساء؛ لأنها كانت تخرج على الجيوش المعادية بدون صوت غير الهجوم المفاجئ على الجيوش المعادية دون أي تنبيه أو إنذار بالهجوم، وكان قائد هذه الكتيبة سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي.
لم يرضَ سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يأمر كتيبته الخرساء بالهجوم في أول دجلة؛ لأنه يعلم أن الأمر في منتهى الصعوبة، فآثر أن يكون هذا الأمر تطوعًا، وأعلن في المسلمين أنه من يريد أن يتطوع لعبور دجلة في مقدمة الصفوف فليتطوع؛ فتقدم له من المسلمين 600 متطوع تقدموا ليكونوا أول أناس تعبر دجلة، فأطلق عليهم سعد بن أبي وقاص "كتيبة الأهوال"، وأي هولٍ أكثر من أن يعبروا نهر دجلة على الخيول وفي مقابلتهم الجيش الفارسي على الضفة الأخرى في وقت الفيضان؟!
وبالفعل بدأ الـ 600 يجهزون أنفسهم للعبور، وأُمِّرَ عليهم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي رضي الله عنه البطل المسلم الذي له في كل موقعة ذِكْرٌ. أَمَرَ سيدنا عاصم كتيبته أن يتخذوا من أنفسهم 60 فردًا؛ ليكونوا في مقدمة الـ 600، وهؤلاء الـ 600 في مقدمة الـ 60000؛ فخرج له ستون فارسًا من فرسان المسلمين الأشداء، وطلبوا أن يكونوا على مقدمة الصفوف، فخرج بهم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي، واقتحم بهم دجلة رضي الله عنه، وأمر الجيش بأن يشرع الرماح، ويلقي بالرماح في عيون الفرس، ويقول لهم: لا تضربوا الفرس في أي مكان، ولكن اضربوهم في العيون.
وهذا الأمر قد تكرر من قبل في موقعة الأنبار، فقد أمر سيدنا خالد بن الوليد الجيوش الإسلامية في هذه الموقعة أن تلقي بالسهام في عيون الفرس؛ فأصابوا منهم في ذلك الوقت ألف عين، وسميت موقعة الأنبار بذات العيون؛ لأنه فُقِئَ فيها ألف عين للفرس، فأراد سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أن يلقي الرعب والرهبة في قلوب الفرس من مهارة المسلمين في رمي السهام والرماح، كما يريد أن يعطل قدراتهم القتالية، فإذا لم يُقْتل الواحد منهم، فإنه يصير أعور، ويترك القتال.
وبالفعل تقدم ستون وتبعهم الستمائة، وبقي الستون ألفًا واقفين على الشاطئ ينظرون: ماذا سيفعل هؤلاء الأبطال الستمائة؟! وبدأ سيدنا عاصم يقتحم دجلة بالخيول، وأذهلت المفاجأة الفرس؛ إذ كيف يأخذ المسلمون خيولهم مقتحمين دجلة وسط الفيضان.
هذا شيء لم يكن يخطر لهم على بالٍ أبدًا، وبدءوا في إنزال قوات فارسية على خيول أيضًا؛ لتقاتل المسلمين في المياه. فرقٌ كبير جدًّا بين القوات المسلمة على الخيول، وبداخلهم روح عظيمة جدًّا؛ فهم منتصرون في موقعة القادسية، وعندهم إيمان شديد بأن الله سيفتح عليهم هذه البلاد، ويفتح عليهم أبيض كسرى الذي وعد اللهُ به ورسولُه، وبين الفرس الذين تملؤهم هزيمة نفسية قاسية؛ فهم قد هُزِمُوا هزيمةً شديدةً في موقعة القادسية، كما هربوا من مدينة بهرسير ذات الأسوار العظيمة، وتجمعوا في مدينة المدائن منتظرين الجيوش الإسلامية، إحساس المنتصر يختلف عن إحساس المنهزم، أضف إلى ذلك أن المهارة الإسلامية تفوق المهارة الفارسية في القتال، وكذلك تفوق الخيول الإسلامية الخيول الفارسية؛ فاجتمعت هذه العوامل جميعًا، ودخل الفرس في حرب خاسرة منذ البداية مع المسلمين وسط المياه، والتقى المسلمون مع الفرس بالرماح، وشهروا الرماح في أعين الفرس؛ ففقئوا منهم العيون، وصار الفرس بين قتيل وأعور وفارٍّ من المسلمين، وكان الأولى والأكثر حكمة في القتال أن يصبرَ الفُرْسُ على وجودهم على الشاطئ ليُلْقُوا على المسلمين السهام، ويتريثوا بعدم الدخول مع المسلمين في موقعة بعد أن أدركوا قيمة المقاتل المسلم.
وقد جعل اختلاط المسلمين بالفرس في القتال داخل المياه القوات الفارسية التي على الشاطئ عاجزةً عن رمي الأسهم على الجيش المسلم؛ فانتصر المسلمون عليهم انتصارًا عظيمًا، وعبر سيدنا عاصم بن عمرو التميمي والستمائة مقاتل الذين معه نهر دجلة، ووصلوا الشاطئ الشرقي لنهر دجلة؛ ليقاتلوا القوات الفارسية الموجودة على الجهة الأخرى، وسيدنا سعد بن أبي وقاص على الناحية الأخرى يراقب الموقف، ويكبر هو والمسلمون كلما زاد تقدم المسلمون، وذلك يزيد حميَّة وحماسة الجيش المسلم، ويَفُتُّ في عَضُدِ الجيش الفارسي، وبدأ المسلمون يُعمِلُون سُيُوفَهم في الرقاب الفارسية خارج أسوار "أسفانبر" على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، حتى أتاهم رجل من داخل مدينة أسفانبر من داخل السور، ونادى على الفرس قائلاً: علامَ تقتلون أنفسَكم؟! ليس في المدينة أحد، كل من بالمدينة هربوا. وعندما سمع الفرس هذا الكلام انهزموا هزيمة نفسية شديدة، وبدءوا يفِرُّون من أمام القوات الإسلامية.
وشاهد ذلك سيدنا سعد بن أبي وقاص فأمر الستين ألفًا بعبور دجلة على خيولهم، وبدأت القوات الإسلامية تعبر دجلة، وسيدنا سعد بن أبي وقاص يقول لهم: اعبروا مَثْنَى مَثْنَى. أي اثنين اثنين؛ وذلك حتى يكونا عونًا لبعضهما البعض؛ فإذا سقط أحدهما في الماء، أو غرق يستطيع الآخر أن يساعده، أو يخبر المسلمين عنه، وأمرهم أن يقولوا: "نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". فهذا دَيْدَنُ الجيش الإسلامي وهو يعبر دجلة، وكان في موقعة القادسية قد أوصاهم أن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم في كل موقعة لهم ذِكْرٌ لله، يستشعرون به مساعدة الله ونصره لهم.
هروب كسرى فارس:
فيعبر المسلمون مثنى مثنى في هذا الوقت إلى مدينة "أسفانبر"، وقصرها الأبيض قصر بوابته شرقية مواجهة لدجلة، وفي هذا الوقت كان كسرى فارس يهرب من هذا الموقف الرهيب: موقف ملاقاة المسلمين، حيث هرَّبوه في زبيل (وهو شيء مثل القفة أو يشبه الجوال، يدخلوه فيه حتى لا يراه أحد) من الباب الخلفي لقصره، ويهرب خارج الأسوار إلى مدينة حلوان على بُعْدِ 200 كيلو مترٍ من المدائن، وهذه هي المرة الثانية التي يُوضع فيها كسرى فارس في زبيل أو قُفَّة؛ فالمرة الأولى عندما كان صغيرًا، فقد كان كسرى أنوشروان يقتل كل الناس الذين يستحقون الملك حتى لا ينافسه أحد في ملك فارس، فهربت به أمه ووضعته في قُفّة، وخرجت به من هذا القصر نفسه، وهربت به واختفت في أهل فارس حتى أَتَى به أهل فارس، وعيَّنوه كسرى فارس ولم يكن يرغب في ذلك؛ فقد كان عمره 23 سنة عندما ملّكوه عليهم.
كان سيدنا سعد بن أبي وقاص يعبر هو والجيش مثنى مثنى، وكان الذي يعبر معه سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهذا أمر لا بُدَّ أن نقف كلنا أمامه وقفة مهمة.
وقفة مع سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه:
سلمان الفارسي رضي الله عنه -كما نعرف جميعًا- من فارس، فهذه إذن بلده، وهذه قوميته، وهذه عشيرته وأهله وأقاربه، لكنهم على دين المجوسية، وكلهم على عبادة النار؛ فأصبح أهل سيدنا سلمان الحقيقيون هم المسلمون، حتى إن سيدنا سلمان الفارسي في موقعة الخندق -من عظم شأنه وسط المسلمين- يختلف عليه الأنصار والمهاجرون، فالأنصار يقولون: سلمان مِنَّا. والمهاجرون يقولون: سلمان مِنَّا. فيصعد به سيدنا رسول الله فوق كل هذه الطوائف، سواء المهاجرين أو الأنصار، ويقول: "سلمان منَّا أهل البيت"؛ فيجعله سيدنا رسول الله من أهل بيته تشريفًا له، فسلمان الفارسي هذا جعل قوميته، وجعل دينه، وجعل عصبيته كلها للإسلام، ودخل بلاد الفُرْسِ فاتحًا بلاده في صَفِّ المسلمين.