في ذكرى عيد الجلاء ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م، ثمة ابهامات لابد من مناقشتها

الملف الخاص في إحياء ذكرى

 "الثلاثين من نوفمبر67م جلاء آخر مستعمر بريطاني من جنوب الوطن".

المقالة الأولى بعنوان: -

"في ذكرى عيد الجلاء ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م، ثمة ابهامات لابد من مناقشتها.."

 أ.د. أمين الجبر.

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر جامعة ذمار.

موضوع المقال:

"في ذكرى عيد الجلاء ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م، ثمة ابهامات لابد من مناقشتها.."

ا. د. أمين الجبر.

عندما نتذكر الأحداث الوطنية/ المفصلية في تاريخنا المعاصر، فإننا- قطعًا - إذ نجدد الذاكرة إزائها، ونحفز الهمم نحو إستلهامها، علنا بذلك نستلهم من الماضي المجيد ما يبعث الحيوية في عقولنا من جديد، ويصنع الأمل في وعينا الجمعي، بقصد محاولة إلتماع المستقبل وإشراقه بعد جمود، فالثلاثون من نوفمبر ذكرى وطنية خالدة في وعي شعبنا اليمني والتي أعلن فيها استقلال جنوب الوطن من الاستعمار البريطاني الغاشم والذي استمر ردحًا من الزمن قرابة الـ (129) عامًا.

تلك الذكرى التي أجمع على نقاوتها الثورية وصفاؤها الوطني مختلف ألوان الطيف السياسي – آنذاك - جنوبًا وشمالًا، وإن اختلفت بعض الشيء التكتيكات الثورية والرؤى السياسية لدى بعض فرقاء السياسة والأيديولوجيا بفعل طبيعة وعلاقة تلك القوى، قرباً وبعدًا، من المستعمر البريطاني.

فثمة نزوع ثوري راديكالي اتخذ مسارًا كفاحًيا مسلحًا ضّد الاستعمار البريطاني منذ البداية لثورة الرابع عشر من أكتوبر ١٩٦٣م جسدته عمليًا وعبرت عنه فصائل العمل الثوري/ الكفاحي المنضوية تحت (الجبهة القومية) ونهجها القومي اليساري، وآخر محافظًا انتهج مسارًا سياسيًا تفاوضيا إلى جانب الكفاح المسلح بطبيعة الحال، مثلّته فصائل العمل الثوري/ التفاوضي المنضوية تحت (جبهة التحرير) ونهجها القومي اليميني وفق تصنيفات ومصطلحات تلك الفترة.

هذا التباين في الرؤى والخلفيات السياسية / الأيديولوجية انسحب آليا على طبيعة المواقف المتباينة التي اتخذتها القوى السياسية تجاه موضوع الاستقلال الوطني والذي استغلته، بالدهاء والمكر، بريطانيا ووظفته سياسيًا في مواقفها المتناقضة من قضية إنجاز الاستقلال، حيث راهنت على الوقت وعلى إطالة أمد الصراع والتنافس بين فرقاء العمل السياسي، علاوةً على وجود القابلية في التنافس والصراع والذي عبرت عنه حالة الاصطراع السياسي أثناء النضال الثوري، وعقب الاستقلال مباشرة.

إِنَّ حدث الاستقلال في حد ذاته مثَّل قيمة تاريخية تكمن أهميته في كونه فعلًا وطنيًا خالصًا ضّد استعمار خارجي طاغي وحدثًا تاريخيًا مفصليًا في حياة شعبنا اليمني أسس - بشكلٍ أو بآخر - للمابعد الثوري المتجلي في مشروع الدولة الوطنية الحديثة التي استوعبت، بقدرٍ أو بآخر، مفاهيم أكثر حداثةً وأحفل مدنية كالمواطنة والاستقلال والسيادة ...الخ، أيًا كانت النسبية فيها والتي - حتمًا - صهرت كل سلبيات العهد السابق (زمن الاستعمار).  بل يكفي هذا الحدث أهمية أنه وحد الهوية الوطنية في جزء من الوطن، وأذاب كل الجهويات المحلية والنزعات القروية في أكثر من سلطنة ومشيخة.

رافق هذا الحدث، بطبيعة الحال، تراشقات سياسية وتجاذبات أيديولوجية تمحورت في: التنظير والتخوين والتكهن للمابعد الاستقلالي، وصلت في الغالب حد القطيعة وربما الاقتتال. 

فثمة جداليات غلب عليها الطابع العاطفي/ الانفعالي أبدتها مختلف ألوان الطيف السياسي/ الأيديولوجي، بحيث كرّست السلبية، واستحضار نظرية المؤامرة، في كل طروحاتها وتوقعاتها، بل والجزم بحدوث المؤامرة وإمكانية التشظي لدى بعض التوقعات. ليس بكون ذلك - في اعتقادها - لامس الهوية/ العقيدة وعمل على خلخلتها وربما طمسها وحسب، وإنما بكونه - أيضًا - شكّل مسألة مصيرية ووجودية، حينها، (للكينونة، والأنا) على كافة الصعد ومختلف المجالات، برغم الإتفاق على ضرورة الاستقلال.

- ولأنَّ الموضوع برمته كان ذو طابع احتمالي/ اهتجاسي، وكونه أيضًا لازال حينها يتبدى في راهنيته قبل إنجاز الاستقلال: رغبة سياسية آنية، وطموح إعلامي دعائي لدى البعض أكثر منه استراتيجية وحتمية لا مندوحة منها لدى البعض الآخر، بالتالي فإن القراءات المستقبلية إزاه والاحتمالية المتوخاه من تحققه تأرجحت بين ثلاث قراءات يمكن إيجازها في الآتي: -

- ثمة من يرى في حال ما تحقق الاستقلال ستكون الوثبة والانطلاقة النوعية نحو المواكبة والتطور بشروط إنسانوية/ عالموية تتجاوز البدونة والأيديولوجيا السائدة والتي تشكل عائق وعاهة مستدامة تجاه تطور المجتمعات العربية عامة والمجتمع اليمني على وجه التحديد (الفكر اليساري أنموذجًا). وهذا - في رأينا -  ربما كان بعيد المنال.

- وهناك اتجاه محافظ يقرأ الموضوع من مدخلات الهوية/ العقيدة وما سيشكل ذلك من خطر وجودي عليها، وله احجياته المنطقية ومبرراته الموضوعية، وإن غلب على بعض قراءاته النفس الراديكالي أو النزوع الشوفيني (الفكر اليميني أنموذجًا).

- أما الطرف الثالث أو الإتجاه الثالث الذي تناول موضوع الاستقلال، فإن قراءته تتسم بقدر عالي من التوافقية، بحيث يغلب عليها طابع البرجماتية/ النفعية والانتقائية / الجزئية التي تحقق شرط النهضة والازدهار مع المحافظة على الهوية والخصوصية، بالتالي لا ضير لديهم من الاندماج مع الغير إذا ما حقق الازدهار ولا خوف في نفس الوقت على الهوية/العقيدة إذا كانت محصنة وواعية (الفكر الليبرالي أنموذجًا).

هذه القراءات التحليلية/ الاحتمالية الثلاث لواقع ما بعد الاستقلال، برغم توقعاتها الاحتمالية المتباينة، وطبيعة موقفها من الحدث الناجز، إلى جانب معطيات الواقع المستجدة، تجعلنا نتوقف عند ثلاثة سيناريوهات كانت تعتمل في الواقع الموضوعي آنئذ:

-  السيناريو الأول: تحقق الاستقلال الناجز بشروط وطنية توافقية لدى جميع الأطراف وهو ما لم يتحقق.

- السيناريو الثاني: حدوث الاستقلال مع تعذر التوافق واستعصى الوئام بين مختلف الأطراف السياسية وحصول التشظي والاقتتال وهو ما كان.

- السيناريو الثالث: الحالة المثالية الذي حلم به الجميع وبشر به والذي ظل حبيس التنظير التبريري ورهين التجاذبات والاستقطابات الأيديولوجية الوافدة.

لكن مع هذا وذاك علينا أن ندرك إِنَّ موضوع القضاء والقدر، بصفته مشيئة إلهية بقي حاضرًا في الصيرورة التاريخية وخارج سياق الاحتمالية والتكهنات التي طرحها الجميع.

من هنا وبالتأكيد سيبقى لحدث الاستقلال أثره البالغ في وعي الأمة وعلى واقع اليوم وعلى الصراع الدائر في الساحة الوطنية إذ مما لا شك فيه أن ثقافته وما تركه في الذاكرة الجمعية الوطنية من قيم ومبادئ وطنية كفيل بإمكانية لملمة المشروع الوطني والتخفيف من حدة الصراع الدائر. لعل أهَّم القيم السياسية والتاريخية التي يمكن لنا أن نستقيها من هذه الذكرى هي الانتصار للقيم والمبادئ والتي حتمًا تفضي في المحصلة إلى الانتصار النهائي المتوج ببناء الدولة المدنية الحديثة. فضلًا عن قيمة الإصرار والصمود في وجه العواصف والمؤامرات من أي طامع أو انتهازي.  وتبقى أهَّم قيمة يمكن أن نستقيها من هذا الحدث هي قيمة الثبات والجلد على المبادئ والتي من شأنها تجرم المساومة على السيادة الوطنية أو المتاجرة بقيم الدولة المدنية. تلك المبادئ في اعتقادي تظل حية وفاعلة في الوجدان الوطني يمكن بها استلهام ومعالجة الراهن الممزق وتجسير الواقع الاصطراعي الذي كرسه واقع الحال وافرزته العقلية المتعصبة.

على أية حال يبقى يوم ٣٠ نوفمبر من عام ١٩٦٧م يومًًا خالدا في ذاكرة الشعب اليمني قاطبةً، ليس بكونه يومًا وطنيًا لذكرى استقلال جنوب الوطن من نير الاستعمار البريطاني البغيض وحسب؛ إنما لأنه بداية تكوين مشروع الدولة الوطنية الحديثة في جنوب اليمن، والتي تجاسرت ايجابيًا مع مشروع الدولة الوطنية في شمال اليمن حتى أنجزتا الوحدة اليمنية الخالدة في ٢٢ مايو عام ١٩٩٠م.

وفي خضم هذا التباين لقراءة هذا الحدث التاريخي الهام ... يا ترى هل تحققت نبؤة شاعر اليمن الكبير عبد الله البردوني: -

ومن مستعمر غازٍ إلى مستعمر وطني.

أم أن الدرس مستلهم في واقع الحال ... ربما ... وربما.

المرفقات
العنوان تحميل
في ذكرى عيد الجلاء ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م، ثمة ابهامات لابد من مناقشتها تحميل
التعليقات (0)