الملف الخاص في إحياء ذكرى
"الثلاثين من نوفمبر67م – جلاء آخر مستعمر بريطاني من جنوب اليمن".
المقالة الثالثة بعنوان: -
"في ذكرى ٣٠ نوفمبر ٦٧م - عيد جلاء آخر جندي بريطاني من جنوب اليمن."
د. رياض الصفواني.
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر.
موضوع المقال:
" في ذكرى ٣٠ نوفمبر ٦٧م - عيد جلاء آخر جندي بريطاني من جنوب اليمن."
د. رياض الصفواني.
تحل علينا اليوم مناسبة وطنية عزيزة على قلب كل يمني في جنوب الوطن وشماله، هي الذكرى الخامسة والخمسين لعيد استقلال جنوب اليمن عن الاحتلال البريطاني، هذا الاحتلال الذي اتخذ من موقع عدن البحري المتحكم بخطوط التجارة بين الشرق والغرب محطة استراتيجية للسيطرة على الملاحة في جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي وحماية مستعمراته في الهند وشرق آسيا وأجزاء من شرق وشمال أفريقيا، جاء هذا الاستقلال تتويجاً لجهود ونضالات فصائل الحركة الوطنية اليمنية من يسارية وقومية ومستقلة ريفية ومدنية، عبر مراحل تاريخية متعاقبة اقترنت بالخطوات التنفيذية الأولى لاحتلال عدن (١٩يناير ١٨٣٩م)، في صورة مقاومات جماعية وفردية متوالية ومتقطعة لأبناء عدن والمشيخات والسلطنات المحيطة بها بدءاً من سلطنة العبدلي - التي كانت عدن تخضع لسيطرتها - ثم الفضلي والعقربي والصبيحي والعوذلي والحوشبي والأميري وبقية السلطنات والإمارات، حمل بعضها طابعاً عسكرياً قتالياً والبعض الآخر سلك وسائل مختلفة تمثلت في قطع الطرق المؤدية إلى عدن والتقطع لقوافل المؤن والإمدادات الداخلة إليها ومصادرتها ومحاولة فرض الحصار على الحاميات البريطانية، لكن الفارق الكبير في القوة والعتاد والتسليح بين المقاومة وقوات الاحتلال يومئذ مكَّن الأخيرة من إحكام قبضتها على عدن وضرْب طوق من العزلة عليها وعلى محيطها وما يليه شمالاً وشرقاً، وعززت ذلك بعقد سلسلة من معاهدات الحماية مع مشائخ وسلاطين الجنوب وما عرف بعد ذلك بالمحميات (٢١ محمية)، بيد أنَّ هذا الفارق والعزل ومحاولات التضييق واستخدام سياسة "فرق تسد" الشهيرة وكذلك المعاهدات السياسية من صداقة وحماية واستشارة لم تثنِ المقاومة اليمنية ببنيتها البسيطة يومها وبأشكالها التي تطورت لاحقاً وصولاً إلى تشكيل النقابات والمنظمات والاتحادات والحركات العمالية في منتصف القرن العشرين بتأثير المد الثوري التحرري العالمي عن القيام بواجبها بحسب موقعها في خارطة الوعي السياسي والأيديولوجي الأممي والقومي والوطني، والتي يمكن القول استناداً إلى المعطيات التاريخية أنها قد نحت في نضالها منحنيات توزعت بين المسيرات والاضرابات، وكتابة المقالات والتقارير والمنشورات والخطب واللقاءات الجماهيرية التوعوية في الأندية والمقرات والأماكن العامة والخاصة، وبين الانتفاضات وأعمال الكر والفر والهجمات الفدائية الموجعة على التجمعات والثكنات العسكرية لقوات الاحتلال بمختلف الأسلحة الخفيفة بما فيها القنابل، ناهيكم عن رفض قطاع واسع من أبناء عدن والمحميات مشروعات التجزئة والفصل التي انتهجها وغذاها الاستعمار لفصل عدن عن بقية مكونات الجنوب الأرض والإنسان (اتحاد إمارات الجنوب العربي المزيف ١٩٥٩م، الجمعية العدنية)، كل ذلك مع سياسة القتل والقمع والتعذيب الوحشي التي انتهجتها سلطات الاحتلال أفضت بالمحصلة إلى ثورة أشعلها الثوار من جبال ردفان بقيادة عضو جبهة التحرير الشيخ "راجح لبوزة" في ١٤ أكتوبر ٦٣م، وهي الثورة التي وجدت في ثورة ٢٦ سبتمبر ٦٢م ضد النظام الإمامي في شمال اليمن وفي القيادة الجمهورية الدعم السياسي والعسكري وتهيئة مسرح التدريب العملياتي القتالي، وإن شئنا في هذه التناولة القصيرة أن نختزل ذلك الدعم والسند في تجربة الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل لكفانا، فمن صنعاء كما في تعز وإب وغيرها تبلورت أدبيات ونشاطات العمل السياسي التنظيمي للجبهة بصيغة أوسع، ومنها انطلقت مهامها الكفاحية بقيادة أول رئيس لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية "قحطان محمد الشعبي "ونائبه" فيصل عبداللطيف الشعبي" وغيرهما من رفاق العمل الجبهوي الوطني، وخلال الفترة من أكتوبر٦٣ وحتى نوفمبر ٦٧م شهد جنوب اليمن أعمال عسكرية مناهضة للاحتلال تبنتها وقادت فصائلها الجبهة القومية وجبهة التحرير اللتين دخلتا في مواجهات عسكرية إثر خلافات في التوجهات والرؤى العملية ليس هنا مضمار بسطها بقدر ما نسعى لإبراز لُحمة النضال الوطني عامة كهدف أساسي بمعزل عن حجم الدور الذي اضطلع به هذا المكون عن ذاك، ويكفي لإبراز تلك اللُحمة، والهدف أن نعرف بأنَّ كِلتا الجبهتين اشتركتا في الدعوة إلى إضراب عام شل كافة أجهزة العمل في مدينة عدن في أبريل ٦٧م، كادت تلك الخلافات التي حرص الاستعمار ومن دار في فلكه من السلاطين على تغذيتها أن تعصف بجهود الكفاح الوطني السياسي والعسكري في مقارعة الاحتلال وتحقيق الاستقلال المنشود، غير أنَّ تلك الخلافات وإن كانت مما يؤسف له قد تم احتواؤها بمحادثات ووساطات داخلية وخارجية في لحظة فارقة من زمن الكفاح الوطني وتحقق لجنوب الوطن استقلاله الناجز بعد أن أُجبرت بريطانيا على إن تحمل عصاها وترحل كما طالبها بذلك الرئيس المصري جمال عبدالناصر الداعم الرئيسي لثورتي سبتمبر وأكتوبر في خطاب تاريخي ألقاه في مدينة تعز عام ٦٤م، أشاد فيه بالدور البطولي لأبناء عدن والجنوب في التصدي لمخططات الاستعمار وطرده قائلا: ً
"اليوم نعلنها للجميع بأن بريطانيا ومنذ عدة شهور ترسل الأسلحة لكي تضرب ثورتكم، ولكن الأسلحة لم تستخدم ضدكم، بل ارتدت إلى صدور الاستعمار وإلى أعوانه. لن نمكن الاستعمار من أن يبقى في أي جزء من أرض الأمة العربية، ولابد لبريطانيا أن تنظر إلى ثورتكم بكراهية ...".
كما كان لإذاعة صوت العرب في القاهرة وغيرها من الوسائل الإعلامية المسموعة والمقروءة دور في تأجيج المشاعر الوطنية ضد قوى الاستعمار وعملائه والقوى المتحالفة معه في المنطقة، وكان رحيلها قد تم قبل الموعد المحدد من قبل الحكومة البريطانية التي قررت في كتابها الأبيض منح عدن والجنوب الاستقلال في مطلع العام ٦٨م، وذلك كشاهد مادي مكثف على قوة وعمق الضربات التي تلقتها وأجبرتها على لملمة قواتها ومعداتها ووسائلها والجلاء عن عدن بعد قرن وثلث من احتلالها، واستلام الجبهة القومية الممثل الشرعي لأبناء الجنوب اليمني زمام أمور عدن وسائر مناطق البلاد بعد طرد القوى المشيخية والسلاطينية منها.