أبرز الأحداث التاريخية (لليمن الحديث والمعاصر)
من الفترة 1940 - 1967م
تأليف أ.د. أمين الجبر
صحيفة فتاة الجزيرة من 1940 - 1967.
● المقدمة:
مثلّت صحيفة "فتاة الجزيرة" كأول صحيفة يمنية امتدت برؤيتها الإعلامية في نشر الثقافة العربية ومجاراة الأمم المتمدنة في تقدمها الثقافي والزراعي والصناعي والتجاري ورقيها العلمي والأدبي جاعلاً هذه الصحيفة منبراً لشباب عدن والجزيرة العربية.
● صحيفة فتاة الجزيرة من 1940 - 1967.
تعد صحيفة "فتاة الجزيرة" أول صحيفة يمنية أهلية صدرت بشكلٍ دوري في مستعمرة عدن 1 يناير عام 1940م، وهي بحسب تعريف نفسها "جريدة عربية تصدر يوم الأحد من كل أسبوع. أدب، ثقافة، سياسة ". صاحبها ورئيس تحريرها محمد علي لقمان المحامي.
جاء صدورها استجابة إعلامية لحاجات سياسية فرضتها ظروف وأجواء الحرب العالمية الثانية إذ كانت بريطانيا في حاجة إلى وسيلة دعائية تعبر عن أهدافها وتروج لسياستها، خاصة في حال تزايد السخط والتذمر الشعبي ضدها والمنحاز إلى دول المحور.
ففي بداية صدورها بدت من الناحية السياسية منحازة إلى خط الحلفاء حيث سخرت صفحاتها لنشر أخبار الحرب وانتصارات الحلفاء التي كانت تشيد بها من خلال مختلف الفنون الصحفية من مقال وقصيدة وغيرهما. فضلاً عن أنها كانت تنقل بعض موضوعاتها الأولى نقلاً حرفياً من الصحف والمجلات الإنجليزية الصادرة في عدن بعد ترجمتها إلى العربية، كما كانت تنشر أخبار القادة الإنجليز في حلهم وترحالهم. لهذا ربطتها علاقة جيدة بسلطة الاستعمار ممثلة في حكومة عدن البريطانية بحيث بدت من خلال تناغم خطابها مع التوجه الرسمي لسلطة الاستعمار لكأنها رسمية دائرة في فلكه وناطقة باسمه، وإن كانت ثمة تبريرات تتعلق في هذا الجانب أوردها الجاوي.
قال عبد الوهاب المؤيد في كتابه (موسوعة الصحافة اليمنية): "فإن فتاة الجزيرة اسم يوحي بأنها صحيفة للمرأة في منطقة الجزيرة، أو رمز لمدينة عدن أو الجمعية العدنية أو ما يدخل في إطار المفهوم التلقائي للاسم وعلاقته بما يعبر عنه"، قياساً على اسم "بهية" الذي يعبر أو يرمز لمصر، و "الفيحاء" اسم لدمشق و"الجوهرة السوداء" لإفريقيا و"فتاة شمسان" للفتاة العدنية ... وهلم جراء. وربما هذا ما يوحي إليه اسم "فتاة الجزيرة" التي اتخذت لها شعاراً مرحلياً البيت الشعري التالي:
إني أود من الشباب طموحهم ويمضني فيك الشباب القنع
وهذا النص – في اعتقادنا – هو تحوير لغوي لشاعر عربي، والذي اعتمده البعض شعاراً لها. يقول فيه:
شباب قنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا
استمر هذا الشعار حتى العام 1942م ثمَّ اختفى من صفحاتها، وفي خلالها التزمت "فتاة الجزيرة" نهجاً سياسياً غلب عليه الطابع العام يجمع بين نشر الأخبار والمقالات الصحفية والقضايا الأدبية والأبحاث العلمية مع اهتمامها بالتغطية الخبرية للحرب العالمية الثانية والنشاط الحربي لبريطانيا، والتي أبدت انحيازاً واضحاً لها ولدول الحلفاء من منطلق الانبهار والتأثر بالفكر الغربي، إلى جانب دورانها في فلك السلطة الاستعمارية البريطانية في مستعمرة عدن.
وأكدت انحيازها إلى بريطانيا وإلى دول المحور في أكثر من عدد. ففي عامها الرابع أوردت ذكرها:
"...نستقبل العام الجديد والأمل يشع في أنفسنا فيدفع بنا إلى المقدمة لنصارع الجهل والفقر حتى نصرعهما فنسلك مسالك السعداء من الأمم الفتية. والحرب لما تخمد نارها ولما يخب أوزارها ونحن في جانب الأمم المتحدة قد عقدنا مصيرنا بمصيرها وآمنا بنيل أمانينا في عدلها وقد وجدناها تنافح عن حرياتها وحريات الأمم المستضعفة في هذا الكفاح الجبار ونحن لم نرتبط بدول غير بريطانيا العظمى وحلفائها في تاريخنا الحافل بالشدائد وجهادنا الطويل"
وعلى الرغم من أن "فتاة الجزيرة" قد حددت رسالتها منذ العدد الأول والذي جاء في افتتاحيته: " إن "فتاة الجزيرة" ستربي الصغير وستخدم المريض وستقوم بواجبها الإنساني - إن شاء الله خير قيام وغير خافٍ ما للصحافة اليوم من شأن في ميداني السياسة والاجتماع في السلم والحرب؛ فإن لها الكلمة النافذة والقول الفصل في كثير من الأوساط والدوائر.
ولما كانت عدن ونواحيها بحاجة ماسة إلى جريدة عربية لسان حالها، عزمت على إصدار هذه الصحيفة خدمة لهذه البلاد وأهلها قاصداً نشر الثقافة العربية ومجاراة الأمم المتمدنة في تقدمها الثقافي والزراعي والصناعي والتجاري ورقيها العلمي والأدبي جاعلاً هذه الصحيفة منبراً لشباب الجزيرة العربية وأدبائها رامياً فيما أرمي إليه إلى تعميم التعليم للبنين والبنات ناشرا ألوية الأخلاق الحميدة، ولهذه الغايات ستقبل الجريدة المقالات العربية الصحيحة المفيدة وستنشر الثمينة منها، ومبدؤها دائماً الدأب في سبيل خير الجزيرة العربية. بيد أنه يجدر بي أن أنبه العقلاء الأدباء أننا نواجه حرباً شعواء وأحوالاً عصيبة وما كل أيامنا سواء، وستكون سياسة هذه الجريدة موجهة إلى معاضدة الحق والأخذ بناصر العدل والحرية إن شاء الله".
برغم ذلك لم تحدد بعد هويتها، وأن هويتها لم تتبلور بشكلٍ واضح إلَّا فيما بعد عندما صارت لسان حال الجمعية العدنية – كما سنرى لاحقاً – فحتى عامها السادس استمرت في تأكيد التزامها بتأدية رسالتها والتزامها بما تراه خدمة للثقافة العربية الإسلامية، وإن تجزأت بالنسبة لها الجغرافيا؛ إذ المهم هو وحدة الثقافة والعقيدة الدينية "وحدة الثقافة العربية".
كما جاء في افتتاحية عددها المزدوج (253، 254) وفتاة الجزيرة تقف اليوم بعد أن قطعت خمسة أعوام من عمرها وهي لاشك دائبة في تأدية رسالتها للعروبة والإسلام رغم ما لاقت وما تلاقي من شدائد في محيط يضيق به الأديب ذرعاً وتفتقر فيه الجهود الأدبية إلى التقدير والتنظيم ويحتاج فيه الإصلاح الاجتماعي إلى كرم الرجال وتعاون الأمة بصورة واسعة مع الدولة الحاكمة – وهذه رؤيتها في الإصلاح – تعاوناً منبعثاً عن مؤازرة صادقة ترمي إلى وضع أهداف هذا الإصلاح بالنظر إلى حاجتنا في تربية أبنائنا وبناتنا ورفع مستوى معيشتنا وإصلاح بيوتنا ومدينتنا واستثمار مصالح البلاد لخير أهلها، والعمل المتواصل للقضاء على الأمية.
وعلى هذا الأساس، ومن منطلق التأثر بالفكر الغربي الليبرالي، لعبت "فتاة الجزيرة" دوراً أساسياً في الدعوة إلى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مستعمرة عدن، حيث دعت إلى تعميم التعليم والزاميته على الرجل والمرأة على حدٍ سواء، وناقشت موضوع الحجاب بأسلوب عصري حداثي، كما طالبت ببناء المستشفيات وإصلاح الطرقات على طريق تمدين عدن وبعض المحميات، وغيرها من المطالب الإصلاحية والخدمية، والتي طالبت بتحقيقها – أيضاً – في شمال اليمن كنوع من التضامن مع مطالب الأحرار ضّد الإمامة، والتي على أساسها بُنيَت العلاقة بين الطرفين. فقد أفردت كثيراً من صفحاتها لقضية الأحرار في منافحة الإمامة، وأفسحت لهم مجالاً للإدلاء بمختلف آرائهم الموجهة ضّد الوضع القائم – آنذاك – في شمال اليمن، كما كتب فيها الأحرار العديد من المقالات وحرروا فيها الكثير من المواضيع الموجهة ضّد السياسة الإمامية، وعلى رأسهم الزبيري والنعمان، حتى تبدت في بعض مراحلها لكأنها واحدة من صحف المعارضة كان لها قصب السبق في تبني مطالب الأحرار. من نماذج ذلك قول الأحرار فيها:
" لقد كانت أول صحيفة تصدر في هذه البلاد رغم ما كانت تعانيه عدن في ذلك الوقت من تأخر بل كانت أول صحيفة تفتح صدرها للأحرار المكافحين وكانت صفحاتها لا تخلو قط من المطالبة بالحياة الدستورية في اليمن، والحياة النيابية في إمارات الجنوب العربي. لقد شاركت أحرار اليمن نهضتهم الأولى، وخصصت لهم صفحاتها العريضة كما خصصت أخبار المحميات رغم تهديد الرجعيين والإقطاعيين، لقد ظلت هذه الصحيفة تكافح وتناضل هذه المدة الطويلة. وها هي اليوم لازالت تكافح ولازالت تخصص لنا صفحاتها لنحارب ذلك الظلم والاستبداد الجاثم في بلادنا، والصادر عن حكامنا، ذلك الظلم والاستبداد الذي شردنا في أوطاننا وزج ببعضنا إلى السجون، لقد كان لهذه الصحيفة الفضل الأكبر في محاربة الطغاة المستبدين الذين يتاجرون بالوطنية على حساب شعوبهم تلك الوطنية المزيفة التي يتفوهون بها وهم أعداؤها، لم تبيع هذه الصحيفة وطنيتها بدراهم معدودة كما تفعل اليوم بعض الصحف، بل حاربت كل ظالم ومستبد ".
كما حوت صفحاتها العديد من المقالات والأخبار المتعلقة بالمملكة المتوكلية اليمنية – سلطة ومعارضة – بل إنها خصصت صفحة أسبوعية أسمتها "ركن اليمن" كانت تنشر فيها شكاوى المواطنين من موظفي الإمام وحكامه وقضاته، وهذا – في اعتقادنا – سر تقارب الأحرار وصحافتهم مع توجه "فتاة الجزيرة" حول المطالبة بالحكم الذاتي لعدن.
● النزعة الانفصالية:
تبنت "فتاة الجزيرة" خطاً سياسياً يدعو إلى الحكم الذاتي لمستعمرة عدن، بعد أن أصبحت لسان حال "الجمعية العدنية". فمنذ تأسيس الجمعية عام 1950م التزمت الصحيفة بتوجه الجمعية الداعي إلى (العدننة) وتمكين أبناء عدن من الوظائف العليا، إذ سخرت المقالات والأخبار وجميع المواد السياسية والأدبية لتعزيز هذا الاتجاه الذي يقوم في أساسه على شعار "عدن للعدنيين". ومن الأمثلة التي تجلت فيها النزعة الانفصالية؛ المقال الذي كتبه حامد لقمان أحد كتاب الفتاة والذي جاء فيه:
" وعدن بلد صغير جداً لا يتسع إلَّا لعدد محدود من الناس فبابه المفتوح على مصراعيه للداخلين من سائر أجناس الأمم هو الذي سبب لنا هذا الاضطراب في حياتنا وجعلنا لا نعرف ماذا نحن؟ في زمن أصبح الافتخار بالقوميات من الأسس القويمة [القومية] المتينة التي تقوم عليها الشعوب وتتبوأ مقامها العظيم تحت الشمس فإذا أقفل باب عدن وحددت الهجرة إلى هذا البلد الأمين فربما كان في استطاعتنا أن نؤسس قوميتنا ونفاخر (بعدنيتنا) ونصيح بملء فينا أن أصلحوا البلاد يا حكام البلاد لأننا مؤمنون فيما نذهب إليه من القول، مخلصون في أقوالنا وأفعالنا ... إذن (فعدنيتنا) تقوم على أساس أننا وجدنا في عدن وطننا الأصلي ولا ننظر إلى وطن غيره. فنحن كعدنيين لم نتنصل من (عدنيتنا) لا سمح الله وظل كل عدني لا يفكر في مصلحة عدن والشيخ عثمان والمعلا والتواهي لن نستطيع أن نكون أمة لها كيان تقول كلمتها وتعني ما تقول كما يقول المصطلح الأمريكي ... فإذا استطعنا أن نستأثر بعدنيتنا دون غيرها فسيكون الطريق معبداً أمامنا إِذ إِنَّ القومية لا تقوم إلاَّ على توحيد الشعب واللغة والدين والتقاليد والروابط والوشائج العامة".
كما طالبت من الأعضاء العدنيين في المجلس التنفيذي لمستعمرة عدن أن يبدؤوا بالمطالبة الفورية بتعدين الدوائر الحكومية ليكون لرؤساء الدوائر عوامل مشتركة مع الشعب العدني الذي يخدمونه – حسب تعبيرها – كونهم أعرف بحاجته. وكانت الصحيفة تتناول الأحداث التي تقع خارج نطاق مستعمرة عدن، كحادث يقع في تعز أو حضرموت أو صنعاء أو لحج...الخ، وكأنه وقع في بلاد أخرى خارج اليمن على اعتبار أن عدن قطر قائم بذاته لا تربطه باليمن أو بقية (إمارات الجنوب) أية صلة، سوى علاقات الجوار ليس أكثر. وكمثال على ذلك الحديث الذي نشرته مع حسين علي بيومي، وهو واحد من قادة الجمعية العدنية يقول فيه:
" زرت لأول مرة القطر الشقيق لحج، وكانت بمناسبة يوم تأبين المغفور له الأمير أحمد فضل وقد رأيت من حفاوة الاستقبال والترحيب بالعدنيين... الخ ".
وكذلك افتتاحية العدد (203) المعنونة بــ "أخبار عدنية" التي تناولت فيها بعض الأخبار المتعلقة بعدن، والتي تعكس روح المناطقية وسيطرة النزعة الانفصالية على خطاب فتاة الجزيرة".
وهذا الخطاب الذي أبدته "فتاة الجزيرة" المنحاز صراحة إلى ثقافة ما يمكن أن نسميه (العدننة) جاء متسقاً مع رؤى وتوجهات الاستعمار البريطاني؛ الأمر الذي انعكس على مفهوم الجريدة للوحدة اليمنية التي غابت عن صفحاتها باستثناء بعض الإشارات السريعة التي تؤكد استحالة تحقيقها. وبالقياس كتب رئيس تحريرها محمد علي لقمان إحدى المقالات التي تقول: " هل يمكن قيام وحدة بين الصومال وإثيوبيا، فالوحدة لا تقوم على أساس الجنس والارتباطات الأخرى. وإِلَّا لارتبطت العراق مع مصر لا مع بريطانيا العظمى من خلال حلف بغداد، وهكذا الحال بالنسبة لباكستان وإيران وتركيا"، وهو ما ينطبق – من وجهة نظره – على وحدة اليمن الغائب – آنذاك – شرط مقومها المتمثل في وحدة المصالح المشتركة.
وهكذا مثلت صحيفة "فتاة الجزيرة" منبراً إعلامياً هاماً فاحت منه رائحة النفس الليبرالي المبكر، والذي من خلاله قرأت الوقائع والأحداث وأثرت – بشكلٍ أو بآخر – في مجرياتهما. كما شكلّت إرهاصة من إرهاصاته الفكرية والتي وجدت تجلياته امتدادات لاحقة استوعبتها بعض القنوات والوسائل.
المصدر: منتدى المؤرخ الحصيف، الندوات الخاصة بتاريخ اليمن الحديث والمعاصر"1920 – 1970م"، للعام 2019 – 2020م.