أوقاف المراكز العلمية في عصر السلاجقة الأتراك
دورها في النهضة العلمية الإسلامية
(429 - 552هـ)
(الجزء الثالث)
4- أوقاف الخوانق والربط والزوايا:
الخوانق أو الخانقاهات جمع خانقاه، وتكتب أحيانًا "خانكاه" وهي كلمة فارسية معربة في الإسلام على ما ذكر المقريزي في حدود 400هـ[1]. أي أن وجودها صاحب بداية ظهور السلاجقة الأتراك على المسرح السياسي والذين كان لهم الدور الأكبر في بروز ووجود الخوانق.
وتعد الخوانق دور عبادة وعلم، بحيث تقوم بأدوار دينية وثقافية واجتماعية، وقد شاركت مع مراكز تعليمية أخرى في تقديم خدمات جليلة للتعليم والمتعلمين عبر العصور، وهي من الخدمات التي تكفل الأوقاف بتوفيرها وعنايته بأفراد آثروا الخلوة والانقطاع للتعبد وطلب العلم بعيدًا عن مشاغل الحياة، وقد وقف عليها الأوقاف الكافية لتوفير أسباب الراحة والعيش لساكنيها، وتقوم فيها دراسة العلوم الشرعية، كما يدرس فيها التصوف علمًا، ويمارس سلوكًا، وقد كان محمد بن الحسين بن حمزة الجعفري(ت:463هـ) يُكثر من بناء الخانقاهات[2].
وقد اهتم السلاطين السلاجقة الأتراك وأمراؤهم ونساؤهم وبعض علمائهم وأغنيائهم وحواشيهم بهذه المنشآت في عصرهم، فشيدوا منها الكثير وحبسوا عليها الأوقاف الغنية والدارّة للصرف عليها وعلى الساكنين بها بما يقوم بخدمتهم.
أما الرُّبُط، فهي جمع رباط، وهي في الأصل اسم للمكان الذي يرابط فيه الجنود لمجاهدة العدو، وحراسة ثغور الدولة الإسلامية، ثمّ استعير الاسم للأماكن التي يتخذها المتصوفة والزهاد للانقطاع فيها للعبادة، ومجاهدة النفس[3]، وتعتبر من المراكز العلمية التي أسهمت في النهوض الفكري، وهي أيضًا مأوى للفقراء وعابري السبيل، فهي تتشابه مع الخوانق في الوظائف، وإن كانت هناك بعض الاختلافات الشكلية في إمكانيات كل منهما وفي تجهيزاتهما، إذ يبدو أنّ الخوانق كانت أكبر مساحة وأكثر أوقافًا، وأنها كانت تتسع لأعداد أكثر من الرُبُط باعتبارها معدة لإقامة أطول من الإقامة بالربط.
وقد انتشرت الربط انتشارًا واسعًا في مناطق متفرقة من العالم الإسلامي في كل من بلاد الشام والعراق وغيرها، واشتهرت تلك الربط بتقديم خدمات اجتماعية وتعليمية رائدة ومن هذه الربط على سبيل المثال:
رباط الحريم الطاهري، أنشأه الخليفة الناصر لدين الله غربي بغداد على نهر دجلة، يقول عنه ابن الأثير: "هو من أحسن الرُّبط، ونقل إليه (يعني الخليفة) كتبًا كثيرة من أحسن الكتب"[4]. ورباط الزوزني مقابل جامع المنصور ببغداد، يُنسب إلى علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني الملقب بالعُشاري (ت:451هـ)[5]. ورباط شيخ الشيوخ ببغداد يُنسب إلى أبي سعد أحمد بن محمد بن دوست النيسابوري (ت:580هـ)، وهو الذي تولى بناء الرباط، وبنى وقوفه، وبنى وقوف المدرسة النظامية أيضًا، وهو الرباط الذي درس فيه أبو نصر القشيري سنة 469هـ[6]. ورباط أبي الحسن البسطامي الصوفي (ت:493هـ)، وهو رباط مشهور على نهر دجلة غربي بغداد، بناه أبو الغنائم بن المحلبان فنُسب إلى مدرسه البسطامي[7]. وربـاط الأرجُـونية المنسوب إلى والدة الخليفة المقتدي بالله، وقد درس بهذه الربـاط أبو الفتوح بن الأسفراييني سنة 517هـ[8]. ورباط أبي الحسن محمد بن المظفر بن علي بن المُسلمة (ت:542هـ)، حيث كان دارًا للشخص نفسه ووقفه رباطًا للصوفية في بغداد[9]. ورباط قصر حرب بالموصل الذي كان مقصدًا لطلاب العلم والأدب في عصر السلاجقة يدرسون فيه ويحققون وهم مكفولون في الرباط ينفق عليهم بما وقّف عليه من أوقاف[10].
وفي مدينة مرو رباط المروزي يُنسب إلى عبدالله بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن حمدويه أبو المعالي المروزي (ت: 539هـ)، وقد وقف في هذا الرباط كتبًا كثيرة، والرجل عُرف بأنه كان كثير الصدقة والعبادة[11].
ومن هذه الرُبُط التي اشتهرت بسكنى الفقراء وأهل العلم في المدينة المنورة رباط أقامه الوزير جمال الدين الأصفهاني (ت:559هـ) خصصه للفقراء والزائرين، ووقف عليه الأوقاف المناسبة للصرف عليه وعلى من به، وبنى الرُّبُط في أغلب الأماكن وقصده الناس من أقطار الأرض[12]، وفي هذا يظهر أن التأثيرات السلجوقية انتقلت إلى مدن وحواضر إسلامية عديدة.
أما الزوايا فواحدتها زاوية وهي ركن الدار، ثمّ أصبحت تطلق على الدار الصغيرة التي تتسع لأشخاص قليلين ينقطعون في الغالب للعبادة وهي أصغر من الرباط، وربما كانت جزءًا منها حيث كانت تعدّ لإقامة بعض الصوفية والفقراء والأيتام وغيرهم[13].
وقد انتشرت الزوايا مع انتشار التصوف واتساع نطاقه، ولاسيما في عصر السلاجقة الأتراك في كل من العراق والشام[14]وغيرها، فالخوانق، والربط، والزوايا من المراكز العلمية، وتتشابه في معانيها ووظائفها حتى إنّ الأمر قد اختلط على كثير ممن كتب عنها ولم يستطيعوا التفرقة بين مدلول كلّ واحدة منها لدرجة جعلت المقريزي وهو يعرف كلّ نوع في موضعـه، لم يباعد عن معنى واحد، وهو أنها كانت جميعًا بيت الصوفية ومنزلهم[15]، وقد زودت كل من الخوانق والربط والزوايا بما يحتاجه المقيمون بها، ورتبت من أجل ذلك الكثير من الوظائف، حتى إنه وُقِفت بداخل هذه الدور مجموعات من الكتب التي شكلت مكتبات جامعة يرجع إليها الطلبة عند الحاجة[16].
وينطبق حال الأوقاف في المدرس والمساجد على مدارس الصوفية المنعوتة سلفًا، فكان أثر الأوقاف فيها كبيرًا وحصتها منه وفيرة، إذ تُدِين الحركة العلمية في زوايا وربط وخوانق المساجد السلجوقية في استمرارها إلى الأوقاف، حيث كان لكل زاوية وقف يصرف منه على مشاغلها[17].
5- أوقاف البيمارستانات:
تعد البيمارستانات مراكز علمية أسهمت في النهوض العلمي في مجال الطب والتطبيب والصيدلة وغيرها، فبفضل الأوقاف برزت المدارس الطبية، فلم يقتصر أثر الأوقاف في الرعاية الصحية عند معالجة المرضى، بل تعداه إلى النهوض بعلم الطب وتعليمه، سواء في داخل البيمارستانات حيث يرتبط التدريس النظري بالعملي، أم في مدارس متخصصة أنشئت لغرض تعليم الطب في كثير من الحواضر الإسلامية، وهو ما سمي في الحضارة الإسلامية بالمدارس الطبية المتخصصة[18]، تلك المدارس التي لم تختلف عن غيرها من المدارس في نظمها والأوقاف الخاصة بها، حيث كانت تلك المدارس تسمى في أغلب الأحيان باسم منشئها أو واقفها، وقلما عُرفت باسم مدرسها أو جهة وجودها، وكان منشئوها يوقفون عليها من الأوقاف ما يكفي للصرف عليها وصيانتها وللإنفاق على مدرسيها وطلبتها ومستخدميها ومعالجتهم، كما كان يحدد في حجة الوقف عدد من يشتغلون بهذه الصناعة من المدرسين والطلاب وصفاتهم، فمثلًا: اشترط الواقف لإيوان الطب في المدرسة المستنصرية ببغداد أن يكون بها عشرة من الطلاب المسلمين يدرسهم طبيب حاذق مسلم[19].
ولم يكن عصر السلاجقة الأتراك ليعدم من هذه الظاهرة الصحية العلمية، بل أنهم أي السلاجقة رواد هذه الحركة ومطوروها، ومن هذا يفهم أن دور الأوقاف لم يقتصر على ناحية معينة، بل شملت نواحي الحياة المختلفة الدينية والمدنية والعسكرية، والأخيرة كانت مركز لتعليم الفنون والعلوم العسكرية، ولهذا أنشئت لها البيمارستانات ووقفت لها الأوقاف.
ثانيًا: دور نظام التموين الوقفي في تشجيع العلماء والمتعلمين:
مما لاريب فيه أن ظاهرة كثرة المراكز العلمية في عصر السلاجقة الأتراك لم تكن قائمة وفق إطار سياسة تعليمية مرسومة من الدولة أو السلاطين، بل كانت الدوافع الدينية والسياسية هي السبب الأهم أو الرئيس في إقامة تلك المراكز، وهذا ما أعطى الأوقاف أهمية خاصة بالنسبة للتعليم، فالأوقاف هي التي ثبَّتت أركان المراكز العلمية جميعها، ودعمت نظامها، وكان الريع الذي تقدمه الأعيان الموقوفة على المراكز المعنية شهريًا أو سنويًا، نقدًا أم عينًا، هو الضمان لاستمرار العمل في المركز، حيث كانت تدفع منه مرتبات موظفي المركز التعليمي وطلبته بحسب شروط الواقف[20].
لقد توزعت الأوقاف الكثيرة على مراكز ذلك العصر، وكان ذلك سبب توجه المدرسين إليها، وإقبال طلبة العلم عليها[21]. وابن جبير في صدد حديثه عن الأوقاف المخصصة للعلم يذكر المساجد الشرقية والغربية في بغداد مثلًا بأنها لا يأخذها التقدير فضلًا عن الإحصاء، وكانت المساجد، كما يقول ابن جبير، مكانًا لتعليم القرآن لطلبة العلم الذين كانوا يفدون إلى المساجد لهذا الغرض، وكان لهؤلاء التلاميذ، ولمقرئيهم مرتبات خاصة يستحقونها في مقابل تدريس القرآن ودراسته[22].
إن وجود أوقاف سخية الإيرادات وإدارة جيدة وسلطة سياسية مهتمة تمثل العامل الأهم في ديمومة عمل المراكز العلمية واستمرارها في تقديم خدماتها، فقد أشير إلى أن ثمن الأوقاف التي وقفها الوزير نظام الملك السلجوقي على مدارسه التسع[23] كان 600,000 دينار عراقي، أي نحو 75,000 دينار عراقي لكل مدرسة، لذلك استمرت معظم هذه المدارس أكثر من ثلاثة قرون بعد وفاة نظام الملك لاسيما نظامية بغداد[24]. ولم يدخر السلاجقة الأتراك جهدًا في توفير الإمكانات المادية التي تساعد على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراهم ينفقون عليها بسخاء ويخصصون لها الأوقاف الواسعة، فيذكر ابن الجوزي أن نظام الملك وقف على مدرسته ببغداد ضياعًا وأملاكًا وسوقًا بُنيت على بابها، وأنه فرض لكل مدرس وعامل بها قسطًا من الوقف، وأجرى للمتفقهة (الطلاب) أربعة أرطال[25] خبز يوميًا لكل واحد منهم، أما مدرسة أصبهان فقدرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار سنويًا، وكان لنظامية نيسابور أوقاف عظيمة، وقد اهتم نظام الملك بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس[26]. أما الريع الذي كانت تنتجه الأوقاف المخصصة لنظامية بغداد، فقد ورد أنه كان 15000 دينار عراقي في السنة الواحدة[27]، وقد كان ذلك الريع كافيًا لمرتبات الشيوخ ولما يدفع للطلبة، وكان يشمل مؤونة طعامهم وملابسهم وفرشهم، وغير ذلك من ضرورات معاشهم حتى نبغ فيها جمع من الفقهاء الأفاضل ممن لا يحصون عددًا[28].
([1]) المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بـ(الخطط المقريزية)، دار صادر، بيروت، د. ت، د. ط، ج2، ص414.
([2]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص291.
([3]) انظر: الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر، مختار الصحاح، بيروت، 1979م، د. ط، ص 229.
([4]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص252؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج12، ص85.
([5]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ، ج10، ص190.
([6]) المصدر نفسه، ج8، ص314، 350.
([7]) المصدر نفسه والجزء ، ص437.
([9]) المصدر نفسه والجزء، ص309.
([10]) ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1417هـ/1997م، ج4، ص142.
([11]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص297.
([12]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص224-225. ويقول ابن الأثير في الجزء نفسه والصفحة عن جمال الدين أيضًا: "ويكفيه أن ابن الخُجندي وهو صدر الدين أبوبكر عبداللطيف(ت:553هـ) رئيس أصحاب الشافعي بأصبهان قصده، وابن الكافي قاضي قضاة همدان، فأخرج عليهما مالًا عظيمًا، وكانت صدقاته وصلاته من أقاصي خراسان إلى حدود اليمن".
([13]) عبداللطيف حمزة، الحركة الفكرية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي الأول، ط8، دار الفكر العربي، القاهرة، 1968م، ص105.
([14]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن محمد، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، مؤسسة جمال، بيروت، د. ت، د. ط، ج1، ص778-779؛ النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج1، ص136-137.
([15]) المقريزي، الخطط، ج2، ص414، 427، 430.
([16]) الساعاتي، الوقف وبنية المكتبة العربية، ص107-113.
([17]) المقريزي، الخطط، ج2، ص255-256.
([18]) انظر: الظاهري، خليل بن شاهين، زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك، تحقيق: بولس راويس، المطبعة الجمهورية، باريس، 1894م، د. ط، ص29.
([19]) ابن القوطي، كمال الدين أبو الفضل عبدالرزاق بن تاج الدين أحمد، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، تحقيق: مصطفى جواد، 1932م، د. ط، ص56؛ حسين أمين عبدالمجيد، المدرسة المستنصرية، مطبعة شفيق، بغداد، 1960م، د. ط، ص105.
([20]) أمين محمد، الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر، ص240.
([21]) ابن الجيعان، شرف الدين يحيى ابن المقر، التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية، دار الكتب الظاهرية، دمشق، د. ط، د. ت، ص7، 8 – 154.
([22]) ابن جبير، الرحلة، ص85. ويقول ابن جبير أيضًا : "وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحًا يستند كل إنسان منهم إلى سارية، ويجلس أمامه صبيٌّ يلقنه القرآن، وللصبيان على قراءتهم جراية معلومة، وأهل القدرة من الآباء ينزهون أبناءهم عن أخذها"، ويقول: "وتعليم القرآن للصبيان تلقين، ويعلمون الخط في الأشعار ونحوها". الرحلة، ص273.
([23]) وهي: المدرسة النظامية في مرو، وفي الموصل، وفي بغداد، وفي نيسابور، وفي بلخ، وفي البصرة، وفي آمل، وفي هراة، وفي أصبهان.
([24]) البرهاوي، رعد محمود، خدمات الأوقاف في الحضارة العربية الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الميلادي، بغداد، 2002م، د. ط، ص104.
([25]) المقصود به الرطل البغدادي(رطل الكيل أو رطل الأشياء)، ومقدار الرطل البغدادي في الوقت الحاضر هو(57 ,128 ×2,975).
([26]) سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، ج2، ص121؛ ابن الجوزي، أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ط1، مطبعة حيدر أباد، الهند، 1359هـ، ج8، ص256؛ سعيد نفيس، مدرسة نظامية بغداد، طهران، 1313هـ، د. ط، ص3.
([27]) محمد عبده، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، ط3، دار الحداثة للطباعة والنشر، بيروت، 2007م، ص98.
([28]) الألوسي، محمود شكري، تاريخ مساجد بغداد، طبعة بيروتية مصورة، د. ت، د. ط، ص102.