أوقاف المراكز العلمية في عصر السلاجقة الأتراك
دورها في النهضة العلمية الإسلامية
(429 - 552هـ)
(الجزء الرابع)
وتشير بعض الروايات التاريخية أن بعض طلبة العلم في النظامية كانت لهم غرف خاصة، إذ روي أن واحدًا من طلابها، ويُدعى يعقوب الخطاط (ت: 547ﻫ) كانت له غرفة، فعندما توفي حضر متولي التركات، وختم على غرفته في المدرسة[1]، كما حرص نظام الملك على توفير الحياة الكريمة لطلاب مدارسه، وأيضا تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث، حيث اجتهد في توفير المراجع العلمية داخل هذه المدارس، فكانت في كل مدرسة مكتبة تضم أحسن المراجع، يتولى أمرها قوام على شؤونها، وكان نظام الملك يتفقد هذه المدارس خاصة نظامية بغداد، ففي سنة 479هـ، وقيل 480ﻫ زار هذه المدرسة وجلس في خزانة كتبها، وقرأ بها كتبًا، ثم شارك في التدريس، فقرأ الفقهاء عليه شيئًا من الحديث الشريف، وأملى عليهم بعضًا منه[2]؛ وكان من الطبيعي أن تؤدي كل هذه الجهود في تشييد هذه المدارس وتيسير سبل العلم فيها، وتوفير الحياة الكريمة بداخلها، إلى رغبة طالبي العلم بالسعي إليها، فأقبلوا عليها حتى بلغ عددهم في نظامية بغداد سنة 488ﻫ 300 طالب كانوا يتفقهون على الإمام أبي حامد محمد الغزالي (ت: 505هـ)، أما نظامية نيسابور فكان يجلس بين يدي إمام الحرمين عبدالملك بن عبدالله بن يوسف المعروف بالجويني (ت: 478هـ) كل يوم نحو من 300 من الأئمة والطلبة، ولم يقتصر في الواقع الإقبال على هذه المدارس النظامية الشافعية على الطلاب فقط، بل شمل أيضًا الكثير من الأساتذة الذين تطلعوا إلى التدريس بها حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يضحي في سبيل هذه الغاية بالتخلي عن مذهبه، ومن هؤلاء: أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان الفقيه المعروف بابن الحمامي (ت: 518ﻫ) كان حنبليًا، فانتقل إلى المذهب الشافعي، وتفقه فيه على يد أبي بكر محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي (ت: 507هـ) والغزالي فجعله أصحاب الشافعية مدرسًا بالنظامية[3].
وهذا يعني أن الأوقاف السخية لم تقتصر على المدارس وإنما شملت أيضًا المساجد والمراكز العلمية الأخرى، مما دفع برجال العلم من العلماء والمتعلمين إلى ارتياد تلك الصروح العلمية التي برزت في عصر السلاجقة الأتراك، ورجل كنور الدين خرّجته مدرسة الإسلام الرحيبة الشاملة لا يمكن إلا أن يرى في العمل والتزيين في المضمون والشكل في الوقائع والجماليات وجهين لعملة واحدة، فقد وقف بستان الميدان والغيضة التي تليه في دمشق لتطييب جوامع دمشق ومدارسها لكي يظل هواؤها معبقًا بالروائح الطيبة والشذى العبق، وكان على اهتمام كبير بهذه المسألة بحيث إنه حدّد مصارف وقفه المذكور: نصفه على تطييب جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء، جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنفية والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة في دمشق وأطرافها، وجلب للمدرسة الحلاوية التي بناها في حلب[4]، من مدينة أفاحية، مذبحًا من الرخام الملكي الشفاف الذي إذا وضع تحته ضوء شفّ من وراء الرخام، ولما دخل قلعة دمشق سنة 549هـ أنشأ بها دارًا عامة في غاية الحسن سماها دار المسرّة.
ولا شك أن كثرة الأوقاف على المراكز العلمية الأخرى في عصر السلاجقة الأتراك قد أسهم في تحقيق مجانية التعليم حيث لم يكن ممكنًا تفرغ العلماء للتعليم لو لم تؤمن معيشتهم على وجه يكفيهم[5]. ولم يقتصر مورد هذه المراكز على الأوقاف الكثيرة التي كانت تخصص لها، بل كان للعلماء عطايا وهبات خاصة يمنحها لهم الأمراء ومرتبات تصرف لهم من خزانة الدولة[6]. كما أن من مظاهر اهتمام الحكام السلاجقة الأتراك بالنشاط العلمي ما ذكر من أن السلاطين أنفسهم كانوا يهتمون بالأخذ بنصيب من الثقافة بالقدر الذي تمكنهم منه ظروفهم، فقد روي عن الواعظ المغربي أبي القاسم البكري (ت: 476هـ) أنه ورد بغداد سنة 475هـ فقصد الوزير نظام الملك، فأحبه ومال إليه، فأجرى عليه الجراية الوافرة، فوعظ بالمدرسة النظامية[7]؛ وعندما سمع نظام الملك من - أبي بكر محمد بن ثابت الخجندي (ت:552هـ) - وهو يعظ في مدينة مرو، وعرف محله من الفقه والعلم، حمله إلى أصبهان، وجعله معلمًا بالمدرسة النظامية فيها {أصبهان}، فنال جاهًا عريضًا ودنيا واسعة، وكان نظام الملك يتردد إليه ويزوره[8].
ومن حب السلاجقة الأتراك للعلماء وتشجيعهم أن نظام الملك قصد القاضي أبا الحسين محمد بن محمد بن البيضاوي الفقيه الشافعي (ت: 468هـ)، وكان رجلًا عابدًا خيرًا يُدرِّس الفقه، فاستمع نظام الملك لوعظه حتى بكى[9].
ويمكن القول أنه كان يُوجد اهتمام كبير بالعلم والعلماء خلال عصر السلاجقة الأتراك وتحديدًا في عهدي ألب أرسلان والسلطان ملكشاه، حيث كان الوزير نظام الملك يَعمل في الدولة خلال حكمهما والذي قام بجهود كبيرة لدعم العلم والأدب، وقد أعطى نظام الملك رواتب منتظمة للعلماء في جميع أنحاء دولة سلاجقة الأتراك لتشجيعهم على عملهم، وقد بلغ عدد من يَصرف لهم المال 12,000 عالم وأديب، كما اهتم بمجالسة أهل العلم فكانت مجالسه تعج بهم، واهتم أيضًا بإنشاء المدارس النظامية، فأسس العديد منها خلال عهد ألب أرسلان في أنحاء العراق وفارس من بغداد والبصرة إلى نيسابور وهراة، وأسس المكتبات أيضًا وملأها بكتب من مختلف مجالات العلم. حتى أن ابن الجوزي قال عنه أنه: "كانت سوق العلم في أيامه قائمة والعلماء في عهده مرفوعي الهامة"[10]، على أن من أبلغ الأمثلة على ذلك الحب للعلم والعلماء، ما قام به نظام الملك حين بنى مدرسة نظامية في الموصل بالقرب من الجامع النوري، بناها للقاضي أبي بكر بن محمد بن أبي علي الحسن الخاندي المعروف بالسديد، ووقف عليها الكثير من الأوقاف التي توازي أوقاف نظامية بغداد[11]، وبالجملة فإن السلاجقة الأتراك خصوا الجوانب التعليمية (المراكز العلمية) بشيء من الاهتمام والرعاية والعناية لبالغ أهميتها.
المبحث الثالث
دور الأوقاف في ظهور المراكز العلمية وتأثيراتها
أولًا- دور الأوقاف في ظهور المراكز العلمية في عصر السلاجقة الأتراك:
لا يمكن إغفال الدور الذي أسهمت به الأوقاف في عصر السلاجقة الأتراك في إثراء الحركة العلمية والثقافية في ديار الإسلام، فقد وفرت الوظائف المنتظمة للعاملين على صيانة ورعاية المراكز العلمية الموقوفة والموقوف عليها، ووفرت كتب العلم ومصادر التعليم، وساعدت في حفظ مصادر المعلومات من الضياع للمساعدة في نشر العلوم بين الأجيال القادمة، وتوفير مصادر المعرفة المختلفة، وجمعها، وحفظها، وتصنيفها، وترتيبها، والمساعدة في نشر الأخلاق الفاضلة، وترسيخها بين أفراد المجتمع، وتقوية الروابط الإنسانية، وتقوية الروابط بين العلماء.
لقد أدت أروقة المساجد دورًا بناءً في الحركة التعليمية قبل ظهور المدارس[12]، فضلًا عن كونها المؤسسة الأولى في الدولة الإسلامية كانت دار علم[13]، ومركز للحلقات العلمية والأدبية يلتقي بين أروقتها المعلمون والمتعلمون ليتدارسوا أصول عقيدتهم الدينية وأركانها[14]، وقد كان للمساجد والجوامع أثر عميق في ظهور مجموعات متعددة وأعداد كثيرة من الأجيال العلمية التي برزت في ميادين العلوم المختلفة ، ولهذا وقف السلاجقة ومنهم السلاطين والأمراء والتجار والمحسنون الكثير من الأوقاف على المساجد لخدمة طلبة العلم الذين يترددون إلى هذه الحلقة العلمية أو تلك[15]. فظهرت العديد من المدارس، وليس أدلنا على ذلك من المدارس النظامية التي أنشأها نظام الملك الذي يقول عنه السبكي: "أنه بنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان، ومدرسة بالموصل"[16]، ويقول الذهبي عنه: "...، مجلسه عامر بالقراء والفقهاء، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد وأخرى بنيسابور، وأخرى بطوس، ورغب في العلم وأدرَّ على الطلبة الصلات، وأملى الحديث،..، وبنى الوقوف، وجذب الكبار إلى جانبه.."[17].
لقد بذل السلاجقة وعلى رأسهم الوزير نظام الملك وغيره جهودًا مضنية للنهوض بالحركة العلمية وتجديدها، وذلك عبر المراكز العلمية التي أنشأوها في كل مكان، وكان لها الأثر الكبير في الحياة العلمية الإسلامية، وفي التنظيم التعليمي، الذي أسس لنظام تربوي جديد يقوم على أساس التخصص، وأيضًا توفير البيئة المناسبة للعلم والتحصيل العلمي للعلماء والطلبة على حد سواء.
لقد أعطى ازدهار الأوقاف في عصر السلاجقة الأتراك للنواحي العلمية والأدبية فرصة لظهور مراكز مختلفة في شتى فنون المعرفة، فلمع منها علماء أفذاذ أبدعوا وأتقنوا صناعة العلم بكل محتوياته، وصنفوا كتبًا مدهشة وعالية الأهمية من الأعمال العلمية والفنية والأدبية، ومن الشواهد على ذلك الآثار الباقية لفن عمارة المساجد والمدارس والخانقاهات والربط وغيرها، وكذلك آثار الأدب التركي السلجوقي مثل بعض المعاجم اللغوية والحكايات الملحمية في الفن السلجوقي والتي يمكن من خلالها ملاحظة ظهور الناس كمواضيع للوحات والأعمال الفنية، ويَعتقد الدارسون حاليًا أن ما ولّد هذا التطور هو تغير فلسفتهم الإنسانية التي تتمثل في التساؤل حول دور الجنس البشري في الكون والرغبة في الحصول على المعرفة وتطوير نظام أخلاقي، ولولا الأوقاف لما ظهر ذلك التميز العلمي، ولما برزت تلك المراكز وأهميتها التعليمية بل المعرفية برمتها.
([1]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص345.
([2]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص347.
([3]) المصدر نفسه، ج9، ص191؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج1، ص257؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج12، ص194.
([4]) ابن العديم ، كمال الدين بن العديم عمر بن أحمد بن أبي جرادة، بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقيق: سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، د. ت، د. ط، ص920.
([5]) الزايدي، الأثر الثقافي للوقف، ص94.
([6]) وذكر القاضي الفاضل في إحدى رسائله إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي "أن أرزاق أرباب العمائم في دولته ، إقطاعًا وراتبًا يتجاوز000 ,200 دينار ، وربما وصل 000, 300 ألف شهادة لله". أبو شامة، شهاب الدين أبو محمد عبدالرحمن بن إسماعيل، الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: محمد حلمي ومحمد مصطفى زيادة، مطبعة وزارة الثقافة والإرشاد، القاهرة، 1962م، د. ط، ج1، ص124.
([7]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص327.
([8]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص28-29.
([10]) ابن الجوزي، المنتظم، ج8، ص173. انظر أيضًا: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص379.
([11]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص244، 248.
([12]) عماد عبدالسلام رؤوف، مدارس بغداد في العصر العباسي الأول، بغداد، 1966م، د. ط، ص5.
([13]) الشطي، أحمد شوكت، مجموعة أبحاث في الحضارة العربية الإسلامية والمجتمع العربي، دمشق، 1963م، د. ط، ص188؛ أحمد جاب الله شلبي، الفكر الإسلامي(منابعه وآثاره)، القاهرة، 1986م، د. ط، ص32.
([14]) ابن جبير، الرحلة، ص213، 222؛ أحمد رضا أحمد، المدارس في بلاد الشام في العصر الأيوبي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة الموصل، 2008م، ص20.
([15]) محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله، الوقف في الفكر الإسلامي، المغرب، 1996م، د. ط، ص 3-4.