المؤرخون اليمنيون في العصر الحديث وضرورة دراسة نتاجهم العلمي
(المؤرخ: المطهر بن محمد الجرموزي (1594م /1666م) أنموذجًا)
(الجزء الثالث)
- تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار:
تناول المؤرخ الجرموزي في كتابه (تحفة الأسماع) سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وتطرق في مقدمته للحديث عن المعارضين لإمامة الإمام المتوكل على الله، وكيف حسم الإمام -المتوكل- الصراع القائم -وقتئذ- بين أفراد الأسرة القاسمية -المعارضين- الذي انتهى بتوليه إدارة شئون البلاد في عام (1054ه/1644م)([1]).
ورسم مؤرخنا بدقة متناهية صورة واضحة للسياسة التي اتبعها الإمام لمد نفوذه إلى المناطق الجنوبية من البلاد بغرض ضمها في إطار الدولة الواحدة، وقد خصص حيزًا كبيرًا من السيرة للحديث عن الوقائع والأحداث التي خاضتها قوات الإمام بقيادة أحمد بن الحسن بن القاسم في تلك المناطق، كما وضح توضيحًا جليًّا المعارك التي خاضتها قوات الإمام المتوكل في المناطق الجنوبية، الهادفة إلى توحيد اليمن تحت لواء دولة مركزية واحدة امتدت سيطرتها إلى حضرموت وما جاورها من مشرق اليمن وجنوبه([2]).
وتطرق المؤرخ كذلك إلى الحياة السياسية والعلمية للإمام المتوكل على الله إسماعيل، فضلًا عن إصلاحاته الإقتصادية.
واهتم المؤرخ برصد معالم السياسة الخارجية التي انتهجها الإمام المتوكل مع عدد من الأقطار العربية والإسلامية، وبعض الدول الأوروبية([3])، كما أنه ترجم للمعاصرين من علماء، وفقهاء، وأدباء ممن عاصروا الإمام المتوكل على الله، فضلًا عن الحياة العلمية التي شهدها عصره([4]).
- عقد الجواهر البهية في معرفة المملكة اليمنية، والدولة الفاطمية الحسينية:
تناول مؤرخنا في كتابه (عقد الجواهر البهية) أخبار من ملك اليمن منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاء بعصره، ولم يقدِّر أهمية هذا الكتاب كما يقول مؤرخ معاصر: "سوى ناس قليلين منهم الشيخ حمد الجاسر الذي يمتلك نسخة من الأم المجهولة"، وأورد المؤرخ الجرموزي إلى جانب الأحداث التاريخية والسيرة الشخصية والمفصلة للإمام المؤيد محمد بن القاسم وسياسته العسكرية والإدارية والمالية وعلاقاته الخارجية، كل الرسائل والخطابات والتوجيهات التي أرسلها الإمام إلى شخصيات يمنية وعربية مختلفة، وأصبحت المخطوطة بمنزلة أرشيف وثائقي لكل تلك الرسائل.
وتناولت المخطوطة أخبار إخوة الإمام المؤيد محمد: الحسن والحسين وأحمد أبناء الإمام القاسم وسيرهم. وتطرقت إلى أعمالهم وحروبهم ومواقفهم تجاه الإمامة والعثمانيين قبل الإستقلال وأعمالهم السياسية والإدارية بعد الإستقلال.
وأبرزت المخطوطة الأدوار التاريخية والشخصية للعلماء والقادة والشخصيات البارزة ورؤساء القبائل وأدوارهم العسكرية قبل الإستقلال حتى انسحاب العثمانيين من اليمن، وتوضيح أدوارهم وإسهاماتهم من أجل بناء الدولة القاسمية المستقلة.
وقد أظهرت المخطوطة الجوانب الإيجابية والسلبية العامة لكل الشخصيات والأفراد في تلك المرحلة التاريخية، وشرحت لنا أدق التفاصيل عن أخبار المدن والقرى والعزل والجبال والوديان والقبائل والحصون في كل أقاليم اليمن الشمالية والجنوبية، ولذا قد لا نختلف في اعتبار أن هذه المخطوطة قد أعطتنا صورة واضحة وصادقة لتلك الفترة التاريخية من تاريخ اليمن([5]).
منهج المؤرخ:
كان لحركة التأليف التاريخي في اليمن جذورها التاريخية، فهذه الحركة تنتسب للمدرسة الإسلامية التي التزمت المنهج العلمي والذي سارت عليه الكتابات التاريخية في العصور الوسطى، فقد حرصوا في مقدمات مؤلفاتهم على توضيح الغرض والدافع من التأليف، واتصفت حركة التأليف التاريخي في اليمن بالتدوين المحلي، أي التوسع في تدوين الأحداث التاريخية المحلية وتسجيلها، أو سيرة أئمة الفترة خصوصًا، وتناول الأحداث المتعلقة بالفترة نفسها، ولم يخرجوا إلى الأحداث الخارجية إلا نادرًا إذا ما دعت الحاجة لهذا الخروج.
لقد أثرت الفترة التاريخية التي عاشها مؤرخنا الجرموزي (1003-1077ه/ 1594-1666م) تأثيرًا كبيرًا في أسلوب صياغته للأحداث بحكم قربه من البيت الحاكم (الأسرة القاسمية) فضلًا عن دخوله في خدمة هؤلاء الأئمة، فهو أحد المسؤولين([6])، وهو الأمر الذي ترك بصماته واضحة جلية في منهج المؤرخ في كتابته لمؤلفاته.
ولقد استقى المؤرخ الجرموزي معلوماته من مصادرها لكونه قريبًا من الأحداث من جانب، ومن جانب آخر فإنه يعد من مؤرخي السير البارزين باحثًا مدققًا وراء ما يجمع من الأخبار وروايتها، ولم يغفل عن ذكر من أخذ عنهم حيث يسند رواياته إلى أصولها وكان المؤرخ الجرموزي شاهد عيان على الأحداث، وكثيرًا ما ذكر قربه من الحدث أو مشاركته فيه، وحاول استخدام منهج الضبط والتوقيت، وتجديد وضبط السنوات، ولذلك فقد ذكر في أثناء تدوين أحداث هذه السيرة استشهاده بمصدر معلوماته ([7]).
وتبدو لنا معالم منهجه واضحة فهو على سبيل المثال في مؤلفه (النبذة المشيرة) أشار إلى الغرض من تأليفه بقوله: "...أما بعد فإني كنت سمعت كثيرًا من أخبار مولانا وإمامنا، ووسيلتنا إلى ربنا الإمام الأعظم والحجة لله سبحانه على أهل عصره من ولد آدم، المنصور بالله القاسم بن محمد بن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فأخذ النسيان أكثره، فرأيت أن أعلق في هذا المختصر ما أمكن مما بقي، وأجعله في هذه الأوراق اليسيرة توقيعًا لما أمكن من الجمل، وأما الإحاطة بها فما أبعدها، والتفصيل لها أبعد من نيل النجوم وعدها، لطول المدة وتأخرنا عنها..."([8]).
فيما بيّن المؤرخ الجرموزي، بعناية بالغة، وتفصيل دقيق المنهج الذي اتبعه في كتابه (النبذة المشيرة) سيرة الإمام القاسم بن محمد، من جميع جوانبها الشخصية والحربية والسياسية، وقد عرض هذا المنهج في مقدمة كتابه، حيث قال: "...ونذكر نسبه الشريف، ونشأته، وحلته، وخصائصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وتدبيره، وسخاه، وشفقته على الأمة، وصبره، ونبذًا من مواعظه ورسائله وكراماته، ونبذًا من أشعاره، ويسيرًا مما امتدحه به أهل الإجادة، وتعداد عيون العلماء من أهل عصره، ودعوته، وحروبه، ونهضاته، ووفاته وموضع قبره..."([9]).
ثم يبدأ بعد ذلك عرض موضوعات كتابه ذاكرًا كل عنصر ذكرًا مفصلًا، فيقول: "أما نسبه الشريف فهو الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن يوسف الأصغر الملقب الأشل..."([10]). وقد تطرق المؤرخ في نحو (65) ورقة في مؤلفه إلى الحديث عن صفات الإمام ومناقبه، فيما تناول في بقية الكتاب دعوة الإمام وحروبه (ثورته) في مراحلها الأربع حتى وفاته وهي تمثل الجزء المهم في مؤلفه.
وحرص المؤرخ على تدعيم كتابه بالوثائق مثل رسائل الإمام التي كان يبعثها إلى رؤساء القبائل يدعوهم فيها إلى الثورة على العثمانيين.
وعلى سبيل المثال وثّق المؤرخ في مخطوطته (النبذة المشيرة) إحدى رسائل الإمام يحث فيها على الجهاد ضد العثمانيين حيث يقول: "...ثم إنا ندعوكم إلى جهاد أعداء الله الذين ظلموا العباد وأظهروا في الأرض الفساد..."([11]) كما اهتم الجرموزي بتلك الرسائل التي كان الإمام القاسم بن محمد يتبادلها مع قواده أو حكام الأقاليم، والتي كانت تحمل أوامره وتعليماته وتوجيهاته لتسيير الأمور في مراكز نفوذه([12])، كما أنه لم يغفل تلك الرسائل التي كان يبعثها الإمام إلى بعض أمراء الدول العربية، من ذلك رسالة وجهها الإمام إلى شريف مكة حسن بن نمي يبين له فيها الفتنة التي حدثت في البلاد (اليمن) جراء خروج عبد الله المؤيدي عن الطاعة وإعلانه الإمامة لنفسه.. فيقول: "...أما بعد فكتابنا هذا إلى سلالة النجباء من عترة النبي المجتبى مفاخر الزمن وذؤابة بني الحسن، أهل الشوكة في حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..."([13]). ولقد مثلت محتويات تلك الرسائل وثائق بالغة الأهمية عن هذا العصر وما اتصل به من ظروف محلية (ثورة الإمام ضد العثمانيين)، وعلاقات كانت قائمة بين الإمام وبعض أمراء الدول العربية.
ولعل سعة اطلاعه وقربه من مواقع الأحداث، فضلًا عن موقعه كواحد من كبار مسؤولي الأسرة القاسمية، قد أثرت هي الأخرى في منهجه عند كتابة مؤلفاته. ولقد تميز مؤرخنا دون غيره من المؤرخين المعاصرين له في رصده بعض الأحداث في مؤلفاته، وكأنه يكتب مذكراته([14])، فهو على سبيل المثال يدوِّن الأحداث -في مخطوطته النبذة المشيرة- حول حصار شهارة ضمن مجريات الأحداث لسنة 1011ه/1601م([15]) من قبل العثمانيين، وكيفية خروج الإمام منها (شهارة) في بضع أوراق، لكنه يتوقف فجأة عن أخبار الحصار، تاركًا أكثر التفاصيل لنتائج ذلكم الحدث، لينقلنا إلى أخبار وصول الإمام إلى برط، وما دارت من أحداث بين الإمام وأهالي برط([16]) ثم يتوقف عن سرد أخبار الإمام في برط، ليعود بنا مرة أخرى لمتابعة أحداث شهارة التي كان قد ذكرها فيما قبل، ليضيف إليها ما استجد من الأحداث عقب خروج الإمام إلى برط، كان قد رصدها في مذكراته، غير أنه لم يدونها في كتابه، ومن ثم يعود بالسرد التاريخي بعبارته التقليدية على مثل هذا النحو: "ولنرجع إلى أخبار شهارة المحروسة بالله، فإنهم صبروا بعد خروج مولانا الإمام وأحربوا حروبًا كثيرة..."([17]).
ولقد اتبع المؤرخ الجرموزي في تناوله للأحداث في كتاباته أسلوب السرد القصصي مع حرصه على التوقيت الزمني ورصد الأحداث بتبيان تواريخها([18])، وهو بذلك يختلف عن نهج من عاصره من المؤلفين ممن كتبوا عن الفترة أمثال عيسى بن لطف الله في مؤلفه (رَوْح الروح) التي كانت تنهج في رصدها الأحداث منهج المدرسة العربية الإسلامية الكلاسيكية([19])، بالتزامها بترتيب الأحداث على طريقة الحوليات([20]).
وعني مؤرخنا كذلك عناية دقيقة بتوثيق مادته التاريخية بما وقع بين يديه من كتب المؤرخين المعاصرين له، كان الغرض منها تأكيد مصداقية تلك المعلومات والأحداث التي سطرها في مؤلفاته، شأنه في ذلك شأن سائر مؤرخي عصره، ويبدو ما ذهبنا إليه واضحًا في مؤلفه: (النبذة المشيرة)، حيث حرص على توثيق كثير من أحداثه مما استقاه من كتاب: (اللآلئ المضيئة في أخبار الأئمة الزيدية) للعلامة أحمد بن محمد الشرفي([21])، ..مثل قوله: "...قال السيد أحمد نفع الله به: فتح جهات خولان صعدة وما جرى فيها من الحوادث.."([22])، وهو في موضع آخر ينقل من كتاب (روح الروح في ما جرى بعد المائة من الفتن والفتوح) لمؤلفه المؤرخ، عيسى بن لطف الله([23]) حيث يقول: "...قال السيد عيسى إن الذين أنذرهم وأطلع خبر هذا الظالم رجل من عيال يزيد اسمه سبحا..."([24]) وتجدر الإشارة إلى أن ما نقله من هذه المصادر قد اقتصر على النقل الحرفي ليس أكثر، فلا هو علق عليها إثباتًا أو نفيًا أو ترجيحًا ولا هو عابها منتقدًا"([25]).
وإذا ما ألقينا نظرة على مؤلفات المؤرخ الجرموزي سنجد أنها اتسمت بالتحيز الشديد للأئمة الزيدية، فهو على سبيل المثال عند ذكره للإمام القاسم بن محمد يحيطه بألقاب التعظيم وهالات التقديس([26]) يقول: "...سمعت كثيرًا من أخبار مولانا وإمامنا ووسيلتنا إلى ربنا الإمام الأعظم والحجة لله سبحانه على أهل عصره من ولد آدم المنصور بالله القاسم بن محمد.."([27]) وأهم ما يميز منهج الجرموزي هو تعصبه الشديد لآل القاسم على اعتبار أنه كان أحد رجال الدولة ومن المقربين للسلطة، واتضح من كتاباته التحيز الشديد للإمام المؤيد محمد وإخوته، فكان لا يذكر اسم الإمام مجردًا بل يحيطه بألقاب التعظيم والتفخيم، وكذلك بالنسبة لإخوته الحسن والحسين وأحمد أبناء الإمام القاسم، ولذا اعتُبر المؤرخ الجرموزي نموذجًا للمؤرخين المنحازين إلى الجانب الإمامي ضد الطرف الآخر، وهم العثمانيون من الشخصيات التي شاركت في تلك المرحلة.
([1]) المصدر السابق والصفحة نفسهما.
([2]) الجرموزي: تحفة الأسماع: ص 14؛ الحداد، محمد يحيى: تاريخ اليمن السياسي: خمسة أجزاء، دار التنوير، بيروت،1986م، 2/166؛ الشوكاني، محمد بن علي: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، تحقيق الدكتور حسين بن عبد الله العمري ، جزآن، دار الفكر، دمشق، سوريا، 1419هـ/ 1998م، ص1/148؛ العمري، حسين: مائة عام من تاريخ اليمن الحديث، دار الفكر، دمشق، 1984م، ص230؛ العرشي، حسين أحمد: بلوغ المرام في شرح مسك الختام فيمن تولى اليمن من ملك وإمام، نشرها وحققها الأب، أنستاس ماري الكرملي، مطبعة البرتيري، القاهرة، 1939م، ص 67-68.
([4]) الجرموزي: تحفة الأسماع: ص 40.
([5]) العمري، حسين بن عبد الله: المؤرخون اليمنيون في العصر الحديث: دار الفكر المعاصر، دمشق، 1988م: ص43؛ الثور، أمة الملك: بناء الدولة القاسمية: 1/ 178.
([6]) سالم: المؤرخون اليمنيون: ص74.
([7]) المصدر السابق: ص75؛ الثور، أمة الملك: بناء الدولة القاسمية، 1/174.
([8]) الهجري، عبدالحكيم: ثورة الإمام القاسم: ص 276.
([11]) الهجري، عبدالحكيم: ثورة الإمام القاسم: ص 307.
([13]) المصدر السابق: ص 608-611.
([14]) المصدر السابق: ص632-633.
([16]) الهجري، عبدالحكيم: ثورة الإمام القاسم: ص652-653.
([18]) الجرموزي: تحفة الأسماع: ص25.
([19]) العمري، حسين بن عبد الله: المؤرخون اليمنيون: ص42.
([20]) سالم: الفتح العثماني: ص 503.
([21]) انظر مصادر ترجمته: (الشوكاني: البدر الطالع: 1/136).
([22]) الهجري، عبدالحكيم: ثورة الإمام القاسم: ص494.
([23]) انظر مصادر ترجمته: (الشوكاني: البدر الطالع: 2/517-518).
([24]) الهجري، عبدالحكيم: ثورة الإمام القاسم: ص 452.
([25]) الجرموزي: تحفة الأسماع: ص 28.
([26]) سالم: المؤرخون اليمنيون: ص 76؛ الحييد: المطهر الجرموزي: ص 69؛ العمري، حسين بن عبد الله: المؤرخون اليمنيون: ص248.