أيقونة الفكر والثقافة

أيقونة الفكر والثقافة

أ. محمد سالم بن علي جابر

للفكر والثقافة في حضرموت طابعهما الخاص، وقد انعكسا على شخصية الإنسان الحضرمي الذي جاب الآفاق البعيدة بحثا عن مواطن الأمن والاستقرار والعيش الرغيد، فاستطاع أن يندمج في تلك المجتمعات مؤثرًا فيها ومتأثرًا بها، حيث كانت ثقافته المنفتحة على الآخر والمشبعة بروح التسامح والتعايش وحب الخير للناس؛ العامل الأهم في تحقيق ذلك الاندماج. ولأصالة ذلك الفكر، ولأصالة الشخصية الحضرمية ذاتها، ظل حضورهما واضحًا وفاعلا في تلك المجتمعات، فأقبلت عليهما وتشربت منهما. 

وقد شهدت حضرموت على مر تاريخها عددًا من الشخصيات التي كرست وقتها وعلمها في ترسيخ المفاهيم الثقافية الحضرمية وتأصيلها ونشرها؛ سواء بالتأليف، أو التعليم والتدريس، أو عقد الندوات والمؤتمرات، أو وضع المناهج التربوية، مستخدمين كافة الوسائل الإعلامية لتوضيح مفاهيمهم الثقافية وشرح وبيان وجوه النفع فيها. فالثقافات كالزروع تترعرع بالعناية والاهتمام، وتموت بالتجاهل والإهمال.

تمر بنا اليوم الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس إحدى أيقونات الفكر والثقافة في حضرموت، التي كافحت على مدى ربع قرن من الزمان على نشر الفكر الحضرمي والحفاظ على وهجه وجميل رونقه، إنها مجلة الفكر، تلك الثمرة الطيبة التي لا تزال تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، رغم الكثير من العقبات والصعوبات التي تعترض سبيل كل عمل فكري ثقافي حر.

وبهذه المناسبة أجدني ملزما بتقديم التحية لمحرري هذه المجلة، وعلى رأسهم رائدها ومؤسسها الأستاذ نجيب سعيد باوزير، الذي يُعد من الشخصيات التي كرست علمها ووقتها وجهدها في سبيل الحفاظ على الإرث الثقافي الحضرمي، سواء من خلال تأسيسه لهذه المجلة العريقة، أو من خلال اهتمامه بتراث أبيه المؤرخ القدير الأستاذ سعيد عوض باوزير والعناية به ونشره، أو من خلال ما ترجمه من الكتابات الأجنبية المتعلقة بحضرموت وتراثها الفكري، إلى غير ذلك من المؤلفات والكتابات والمقالات والأبحاث التي شارك بها هنا وهناك.

عرفته -حفظه الله- قديمًا من خلال كتاباته وإسهاماته، لكن معرفتي الشخصية به كانت منذ ثماني سنوات حين نشرنا له كتاب والده المؤرخ سعيد عوض باوزير (صفحات من التاريخ الحضرمي) في عام ٢٠١٢م، فكان بداية لعلاقة وطيدة أثمرت عددًا من الأعمال المشتركة وبخاصة مع مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر.

لست هنا للإشادة بالأستاذ نجيب ذلك المترجم البارع والأديب الأريب والباحث القدير، رغم أنه يستحق منا جميعا ذلك لما يقوم به ويقدمه من أعمال.

كما أنني لست بصدد الإشادة بمجلة الفكر فتاريخها الممتد وأعدادها الثرية كفيلة بذلك.

لكنني أود لفت الأنظار إلى أن هناك أناسًا يعيشون بيننا، يبذلون جهودًا متنوعة ومتعددة للحفاظ على الهوية الحضرمية، والعمل على تجذيرها في المجتمع، حتى ليخيل إلى كل من يعرف أحدهم أنه المعني بقول الشاعر:

تَرَى جُمُوعًا وَلَكِنْ لَا تَرَى أحَدًا ** وَقَدْ تَرَى هِمَّةَ الآلافِ فِي رَجُلِ

فهؤلاء هم من يجب علينا أن نبرز جهودهم، ونشيد بها، ونكرمهم عليها، ليكون ذلك حافزًا لهم لمزيد من البذل ومزيد من العطاء.

لا ننتظر موت هؤلاء الأفذاذ –بارك الله في عمرهم- للعمل على تكريمهم والإشادة بهم، فوردة واحدة في يد أحدهم وهو حي خير من ألف باقة من الورود ننثرها على قبره، فالأحياء أحق بالتكريم من الأموات.

إن الالتفات إلى المبدعين والمفكرين والأدباء والعلماء، والاحتفاء بهم في حياتهم مطلب يكاد يكون ضروريًا في ظل ما يتعرض له هؤلاء من التهميش من فئات من المجتمع، كل ما يهمها مصالحها الدنيوية لا غير.

وفي هذا السياق أدعو بكل حماس لإطلاق جائزة سنوية، يتم من خلالها تكريم كل من عمل على خدمة الهوية الحضرمية، وسعى في تجذريها في المجتمع في شتى المجالات الفكرية، لعلنا بهذا أن نسهم ولو يسيرا في لفت الأنظار إليهم وإلى جهودهم، ليظلوا قدوة حاضرة وملهِمَة لأجيال حضرمية قادمة إن شاء الله.


المصدر: مجلة الفكر  https://wefaq.net/c/horizons/1486

التعليقات (0)