واقع الوثائق اليمنية وأهمية العناية بها (محاضرة)
أ. محمد سالم بن علي جابر
مختصر المحاضرة:
تمهيد:
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
يتجدد اللقاء بكم في هذه الأمسية الطيبة من خلال منتدى ثلوثية بامحسون الثقافي، معربًا عن خالص شكري وتقديري لراعي الثلوثية وصاحبها لإتاحة الفرصة لي للحديث إليكم مجددا في هذا المساء العاطر بأنفاسكم الطيبة.
موضوعنا في هذه الليلة يتناول واقع الوثائق في اليمن وسأتناوله من زوايا مختلفة:
الزاوية الأولى نتعرف فيها على الوثائق في اليمن وأنواعها .
والزاوية الثانية عن واقع الوثائق في اليمن حاليًا.
الزاوية الثالثة نتعرف فيها على أهم الجهات المعنية بحفظ الوثائق والعناية بها.
حال التوثيق في اليمن ؟
لم ينظم التوثيق في اليمن في إطار مؤسسي الا في السنوات الأخيرة وتحديداً عام 1991م عندما تأسس المركز الوطني للوثائق وصدور القانون الخاص بشئون الوثائق مؤخراً تحت رقم 21 لعام 2002م وبالرغم من تأخر إنشاء المركز وتأخر صدور القانون الخاص بالتوثيق إلا أنه مهم جدًا لتنظيم الوثائق والحفاظ عليها في اليمن من حالات النهب والتلف التي تتعرض لها.
وقانون الوثائق هذا يعرف الوثيقة بأنها المراسلات والمحررات والمستندات وكل وعاء لحفظ المعلومات التي يتم تثبيتها فيه بالحرف أو الرقم أو الصورة أو الرسم أو التخطيط - سواء كان على شكل ورقة أو جلد أو صورة أو خريطة أو فلم أو شريحة فلميه (سلايد) أو ختم أو شريط ممغنط أو أي وعاء آخر أياً كان شكله الطبيعي أو مواصفاته أو تاريخه - أنشأه أو حصل عليه أثناء ممارسة نشاطه أي من الجهـات المعنية أو شخص طبيعي أو اعتبارى خاص.
ولعلكم تلاحظون معي أن القانون اعتبر الوثائق ذات صور وأشكال مختلفة ومنها:
الورقة: سواء كانت الورقة من ورق البردي أو الورق العادي، وسواء كتب عليها بخط اليد أو بالآلة الكاتبة أو غيرها من وسائل الكتابة، فيدخل تحت هذا (المراسلات والمبايعات وصكوك التملك والأوقاف وحصر الورثة ومعاهدات الصلح سواء التي بين الدول أو بين المجموعات والتكتلات البشرية وغيرها مما هو مكتوب مثل الصحف والمجلات والمخطوطات والكتب.
الجلد: وهو من وسائل التوثيق قديمًا فتتم الكتابة عليها سواء بالحبر أو بالحفر والحرق.
الصورة: فوتغرافية كانت أو مرسومة باليد.
الخريطة: سواء على الورق أو على الجلد أو كانت منقوشة على حجر.
الفلم: وهو من وسائل التوثيق الحديثة ويعد وثيقة تاريخا إذا مضى على إنشائه 30 عاما.
الشريحة الفلمية: (أو ما يعرف بالسلايد) وهي أيضا من وسائل التوثيق الحديثة، وينطبق عليها ما ينطبق على الفلم.
الشريط الممغنط: وهو من وسائل حفظ الوثائق الحديثة وهو أنواع ومنه الشريط المسموع.
الختم: ويندرج تحته الشعارات والعلامات التجارية ونحوها
أو أي وعاء آخر أياً كان شكله، فهناك العديد من الوثائق يتم إنتاجها في الحاضر بأدوات توثيق متنوعة، والتي ستُعدّ وثائق تاريخية قيّمة في المستقبل.
وتكمن أهمية الوثائق التاريخية في:
- وصفها رصيد الشعوب و ذاكرته ومادته الأولى وهي العنصر الرئيس المكون للوعي التاريخي، ومن أهم مصادر المعرفة، وهي الأصول النزيهة التي يجد العلماء والباحثون بين ثنايا سطورها من الحقائق ما يسد الثغرات الناقصة ويستكمل منها الحلقات المفقودة، وتعد الوثائق من المصادر الأصلية والأساسية لدراسة التاريخ والحضارة لكونها منبعاً مادياً أصلياً يجد فيه الباحث والمؤرخ الكثير من الحقائق الأصلية التي تحتوي على معلومات تاريخية تتناول مسائل السياسة والاقتصاد والتجارة وعادات الشعوب وتقاليدهم ونظم الحكم، وكل ما يتعلق بالحقائق العلمية والحضارية عن الماضي، فهي الذاكرة الحية للأوطان تعين في فهم الماضي والكشف عن أسرار قواعد العلوم وأصولها في كل المجالات الطب، الفلك، النظم السياسية، الاقتصاد، والمال والفن والثقافة...إلخ.
- وهي بهذا تعد مصدراً رئيساً للتاريخ ، حيث أن العلاقة بين علمي التاريخ والوثائق علاقة عضوية تربط بين المؤرخ وعالم الوثائق برباط الهدف الذي يسعى إليه كل منهما وهو الوصول إلى الحقيقة ، ولقد أصبح المنهج الوثائقي أحد الروافد الأساسية في مجرى الحقائق التاريخية فبدون الوثائق وأشكالها المختلفة لا يمكن كتابة التاريخ ، وأي تاريخ يكتب في غياب الوثائق، تاريخ ينقصه الكثير من الحقائق.
- ومن المؤكد أن المؤرخ الباحث في التاريخ، يستنطق الوثائق ويستقصي شهادات الشهود، أصحاب الروايات المعروضة أمامه، يقارن بينها، ويتأمل جزئياتها بكل حيادية ونزاهة، ليتوصل إلى الحقيقة، فلا يختلف عمله هنا عن عمل القاضي إلا بفارق واحد، وهو أنه يتعامل مع شهادات مات أصحابها، فلم يعد ممكنًا مراجعتهم فيما شهدوا به، ولكنه مع ذلك قادر على أن يتفحصها، ويتعرف على ما هو صحيح أو أقرب إلى الصحة منها، أو نبذها أحيانًا، إن اتبع في ذلك قواعد علم التاريخ، أو ما سُمِّي منهج البحث التاريخي، وهو مثل القاضي، يستطيع أن يفتح ملف أي قضية تاريخية، إذا توفَّر له من الوثائق والمصادر الجديدة ما من شأنه أن يغير نتائج الأحكام، أو القناعات السابقة.
هذه لمحة يسيرة عن الوثيقة وأهميتها العلمية ما يدعونا للعناية بها وحفظها.
أما إن تسألني عن حال الوثائق في اليمن، فمعروف تاريخياً أن اليمن منبع الحضارة واصل العرب وبها قامت الدول الحضارية في العصور الغابرة منها سبأ وحمير وحضرموت وقتبان وأوسان ومعين، واهتمت هذه الدول بالتوثيق كل اعمالهم الحربية والعمرانية والحضارية والدينية عبر إقامة المسلات الصخرية وعلى جدران المعابد والقصور والسدود والحصون والابنية العمرانية، وهو ما وجده الباحثين بالتاريخ القديم ومبالخط المسند، فإذن أمامنا وثائق تاريخية مادية ملموسة ترجع الى الألاف السنين تحكي عن هذه الحضارة العريقة والعظيمة.
ومنذ أن جاء الإسلام إلى يومنا هذا وعلماء اليمن يوثقون لكل شاردة وواردة في الدواوين المختلفة، وقد ذكر بعض الباحثين أن في زبيد مكتبة بها أكثر من مائتي ألف مجلد. فضلا عن هجر العلم الأخرى والأربطة والزوايا العلمية وما أكثرها في ربوع اليمن طولا وعرضًا.
وهذا يجعلنا نتساءل أين ذهب الموروث العلمي في اليمن وأين ذهبت وثائقه العامة والخاصة.
بل أين هي الصحف اليمنية حيث عرف اليمن الصحافة منذ وقت مبكر ولكننا لا نجد منها اليوم إلا النزر اليسير.
لقد فقد الوسط العلمي في اليمن الكثير بفقده لمصادره العلمية ووثائقه التاريخية.
فبالرغم من إنشاء المركز الوطني للعناية بالتوثيق، وصدور قانون الوثائق في اليمن إلا أن حال الوثائق اليمنية لا يزال مزريًا كما عرفناه منذ أمد بعيد، ولا شك أن ما تتعرض له الوثائق من نهب وسلب وإتلاف وإهمال؛ له أسبابه الظاهرة والجلية فضلًا عن جملة من الأسباب الخفية.
فما الأسباب الكامنة في ضياع الوثائق اليمنية ؟
النزاعات السياسة: فقد أدى النزاع السياسي في اليمن عبر العصور إلى ضياع الكثير من الوثائق فكلما جاءت أمة أتلفت أرشيف التي قبلها وهكذا الحال حتى يومنا هذا.
الإهمال: إذ لا تزال الكثير من الوثائق تتعرض للإهمال في كثير من القطاعات الحكومية والأهلية والأفراد فقد وقفت بنفسي عند زيارتي لبعض الإدارات التي من مهمتها العناية بالوثائق على ما يدمي القلب من الحال المزرية التي تتعرض لها الوثائق في تلك الجهات، وحين توجهت بلوم القائمين على تلك الجهات كان العذر المشترك بينهم يكمن في عدم توفر الدعم الكافي للعناية بالوثائق.
صحيح أننا نعيش زمن ألا دولة لكن هذا لا يعفي القائمين على العناية بالوثائق من بذل الجهد للحفاظ عليها وعدم تعريضها للتلف، فضلا عن أرشفتها وتحويلها إلى مادة رقمية تستفيد منها الباحثون.
ومن الأسباب أيضا عدم الوعي: فقلة الوعي بأهمية الوثيقة تجعل بعض الجهات أو الأفراد لا يكترثون بالعناية بها بل يعرضونها للتلف أحيانا بغية التخلص منها .
أما قاصمة الظهر فتكمن في تعرض الوثائق للتهريب: وهو من أعظم أسباب فقدان اليمن لكثير من وثائقه التي تعد ثروة وطنية ينبغي الحفاظ عليها ويكفي أن تلقي نظرة سريعة على كتاب (تغريب التراث العربي بين الدبلوماسية والتجارة للدكتور محمد عيسى صالحية) لتدرك فضاعة ما تعرضت له الآثار اليمنية من المخطوطات وغيرها من التراث من عبث وتهريب وتغريب منذ أكثر من قرن على يد الاستعمار الإنجليزي وأدواته وهي أشبه بالحرب المستمرة إلى اليوم والمركزة علي طمس تاريخ وهويه اليمن، وهذا يؤكد على حقيقه وجود خطه معادية نفذها الاستعمار وبأيدٍ يمنية بجهل أو تجاهل منهم، وتهدف تلك الخطة الى إفراغ اليمن من محتواها التاريخي والفكري، تزامنًا مع انتهاكات أراضيها وثرواتها واستقلال القرار فيها وطمس وتشويه الهوية اليمنية إفراغها من مضمونها التاريخي والوطني الإسلامي.
كما أن انهيار الدولة في هذه الأيام وتعطل الكثير من الدوائر الحكومية عن أداء مهامها أدى إلى فوضى عارمة أودت بالكثير والكثير من الأراشيف إلى التعرض للتلف سواء بالإهمال أو النهب أو الحرائق المفتعلة وغير المفتعلة، فهناك أراشيف رسمية فقدناها بالكامل مما يثير الشك ويضع الكثير من علامات الاستفهام.
وهنا نجد أننا أمام سؤال يقول: كيف يمكننا أن نحافظ على وثائقنا وتراثنا العلمي والثقافي؟
ولا شك أن هناك الكثير من الآليات والسبل التي تسهم في تحقيق هذا الهدف الذي أراه هدفا استراتيجيا مهما، ومن ذلك :
أولاً/ وضع خطة عملية لرفع مستوى الوعي بين الناس بأهمية الوثيقة وأهمية العناية بها وبخاصة أن الكثير من الوثائق والمخطوطات لا تزال في حوزة الأسر والأهالي ممن كان لهم دور بارز في التاريخ اليمني فيجب أن تقصد هذه الأسر ويتم إقناعهم بإيداع وثائقهم ومخطوطاتهم لدى أحد المراكز التي يثقون بها ليمكن إتاحتها للباحثين وبهذا يسهموا في إثراء الحركة العلمية بشكل عام.
ثانيًا/ سن القوانين التي تفرض العقوبات الصارمة على كل من يتاجر في تهريب الوثائق وبيعها خارج الوطن.
ثالثًا/ تفعيل دور المركز الوطني ومده بالخبرات والميزانيات الكافية للنهوض بهكذا مهمة، ففي دول العام المتحضرة الكثير من مراكز التوثيق التي تعمل بكل مهنية لحفظ الوثائق والمخطوطات وترميمها وإتاحتها للباحثين.
رابعًا/ حث الباحثين وتحفيزهم على تناول تقديم الدراسات التي تعتمد على المخطوطات والوثائق في مادتها العلمية.
خامسًا/ دعوة القائمين على المراكز العلمية ودور المخطوطات لتسهيل السبل أمام الباحثين المهتمين للوصول إلى الوثائق والمخطوطات ومساندتهم على إخراجها لحيز الوجود.
ولا يسعني في الختام إلا أن أناشد الحكومة اليمنية أن تقوم بدورها في سبيل الحفاظ على ثروتنا العلمية من أن تطولها يد التخريب أو التهريب.
كما أناشد الأهالي والأفراد الذين بحوزتهم الكثير من هذه الوثائق أن يعتنوا بها غاية العناية وأن يعملوا على إيداعها في المراكز الوطنية لحفظها أو تصويرها وإتاحتها للباحثين.
ولعل برنامج إعمار اليمن الذي ترعاه دول التحالف ممثلة بالمملكة العربية السعودية قد أولى هذا الجانب اهتماما كبيرا ولا غرو في ذلك فالمملكة قد قطعت شوطا كبيرا في مجال التوثيق من خلال دارة الملك عبدالعزيز التي حملت على عاتقها زمام المبادرة لحفظ التراث الوطني للملكة العربية السعودية فعملت على مدى عقود منذ إنشائها على تسجيل ذاكرة المملكة الشفهية واعتنت عناية فائقة بالمخطوطات والوثائق الوطنية ولم يقتصر عملها داخل المملكة بل تجاوزت ذلك لجمع التراث الوطني للملكة من جميع مكتبات العالم لتصبح بذلك أكبر بنك معلومات على مستوى الوطن العربي.
لقد تم بالفعل توقيع بعض الاتفاقات بين برنامج إعمار اليمن الذي ترعاه المملكة وجهات الاختصاص في اليمن لحفظ التراث الوثائقي اليمني بتطوير المراكز المتخصصة وتأهيل الكوادر التي يمكنها القيام بمهمة الحفظ والأرشفة وفق معاير التوثيق العالمية، وإننا لنطمع أن تنقل تجربة دارة الملك عبدالعزيز إلى الجانب اليمني لنبدأ المشوار وفق أعلى التقنيات وأكثر التطبيقات فعالية.
الأمل في الله أولا، ثم في دول التحالف التي تشاركنا التاريخ ووحدة المصير في إخراج اليمن من حالة اللا دولة والعودة به إلى محيطه العربي السني ومساندته في بناء نهضته وفق إرادة شعبه وسيادة أراضيه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته