أهم المدن التجارية في الدولة السنارية (1504-1821م) (3)

أهم المدن التجارية في الدولة السنارية

(1504-1821م)

(الجزء الثالث)

           إعداد

 د. حاتم الصديق محمد أحمد

       أستاذ مشارك

 قسم التاريخ – كلية التربية

  جامعة الزعيم الأزهري

سوق شندي:

كانت لمدينة شندي سوق كبير يشتغل على مدار الأسبوع وهناك سوق آخر أسبوعي، ويتم تداول العملة الإسبانية والدمور والذرة، أما الجمال والرقيق فيتم شراؤها بالريال الأسباني، والريال الأسباني يعتبر العملة المعترف بها في سوق المدينة وفي الريالات الأسبانية يحبذون الريال الذي يحمل أسم (كارلوس الرابع) ويسمونه (الريال أبو رابع) ([1]).

ومن السلع التي اشتهر بها سوق شندي البهارات وحطب الصندل الذي كان يستورد من الهند بالإضافة إلى الكحل والسيوف الألمانية والمصنوعات الجلدية التي كانت تأتي من سنار وكردفان وبعض الخرز الذي كان يأتي من (جنوة والبندقية) في ايطاليا والصابون الذي كان يتم احضاره من مصر والملح والذهب من أثيوبيا والخيول من دنقلا، وقد كانت المتاجر عبارة عن زنزانات صغيرة ذات سقف من الحصير والسعف، وقد أمَ السوق عدد كبير من العرب وبعض سكان شمال ووسط وشرق أفريقيا ([2]).

البضائع الهندية في مدينة شندي:

بالإضافة للبضائع سابقة الذكر فان شندي شهدت وصول البضائع الهندية وقد ذكر الرحالة (بوركها رت) أنه وعند زيارته لمدينة شندي شاهد العديد من أنواع القماش في سوق المدينة -التي تعتبر أكبر سوق لتجارة الرقيق في أفريقيا– وقد كان يتم إحضاره من الهند وقد كانت الثياب الهندية من أجود أنواع الثياب ولا يلبسها إلا الطبقة الأرستقراطية في شندي، وسنار، وكردفان، وبالإضافة للدبلان والشاش وهي من انواع القماش القطني الهندي وجد العديد من أنواع العطور الهندية والحرائر حيث يعتبر تجار شندي التجار الوحيدين في توريد هذه المنتجات، وبالإضافة للعطور والاقمشة فقد كان التجار في شندي يستوردون الخرز والسوميت والكهرمان وكلها من الهند ويقومون ببيعها في دارفور ودار صالح وبرقو ([3]).

هناك علاقة وثيقة بين كل من شندي وبربر من الناحية التجارية والاقتصادية، وقد شكلت المدينة مع بربر أكبر الأسواق في شمال السودان، كما أن السلع والبضائع السنارية كانت تصل شندي من سنار عبر أربجي والحلفايا ثم عبوراً من شندي إلى بربر التي تنطلق منها القوافل إلى مصر عبر دنقلا ودارو ثم من بربر إلى سواكن التي كانت تعد المدينة التجارية الساحلية المهمة ومنفذ الدولة السنارية نحو العالم الخارجي.

مدينة الحلفايا:

تقع الحلفايا على الضفة الشرقية للنيل الرئيسي انتقل اليها العبدلاب من قري وأصبحت تعرف بعد ذلك بحلفاية الملوك. اختلفت الآراء حول أصل أسم الحلفايا فمنهم من يقول أن أسمها يرجع إلى نبات (الحلفا) والرأي الآخر يقول إن الاسم مأخوذ من (الحل فأية) إشارة إلى شيخ كان يسكنها و(فأية) هي ابنة أحد امراء الفونج قدر أن شفيت على هذا الشيخ فأصبح الناس يقولون لمن به كرب (يحلك الحل فأية)، يرجح البروفسير عون الشريف قاسم أن الاسم مأخوذ من نبات الحلفا الذي يكثر في هذه المنطقة وينتشر في ناطق واسع على النيل ([4]). وصف الرحالة جيمس بروس الحلفايا بأنها مدينة جميلة، تتكون مبانيها من الطين، ويأكل سكانها القطط والتماسيح وفرس النهر ([5]).

تطورت الحلفايا بمرور الزمن وأصبحت هناك العديد من المباني بالحجر كما شهدت المدينة توسعاَ ملحوظاَ على امتداد النيل ([6]).

كانت لمدينة الحلفايا عاصمة العبدلاب حلفاء الفونج أهمية تجارية كبيرة وذلك لوقعها على الطريق التجاري الذي يربط سواكن ببربر وشندي وسنار، وقد ذكرت تقارير الرحالة الأوربيين عن الحلفايا بانها مدينة تجارية مهمة ذات موقع تجاري جيد وذلك من خلال وقوعها على الطريق الرئيسي بين سنار وقري وشندي ومصر ويعرف هذا الطريق بدرب (الجمل) ([7]).

ازدهرت الحلفايا في عهد الشيخ عجيب ود مسمار الذي تولى حكم العبدلاب في العام (1725م)، وفد الناس للحلفايا بغرض الاستقرار وتطور فيها النشاط التجاري ووفدت إليها القوافل التجارية الأمر الذي ساعد في أن تصبح من المدن التجارية المهمة في ظل الدولة السنارية([8]).

الصناعة في مدينة الحلفايا:

اشتهرت الحلفايا في العهد السناري بصناعة الدمور الغليظ الذي كان يستخدم كعملة في الأجزاء الجنوبية من نهر عطبرة، كما قامت بالمدينة وحولها مزارع القطن لإنتاج الدمور، وقد أسهم تطور هذه الصناعة في توافد الناس إلى المدينة والاستقرار بها، كما أتاح لها قدر من التحضر والتمدن والتعليم وفن العمارة، بالإضافة للأهمية الاقتصادية لمدينة الحلفايا كانت المدينة واحدةً من المراكز الدينية في العهد السناري، كما اشتهُرت بها الخلاوي والمساجد ودور العلم حتى أصبحت من المراكز الثقافية المهمة في ذلك الوقت، وهي موطن العالم والمؤرخ ود ضيف صاحب كتاب (طبقات ود ضيف الله)، ويمكن القول إن الحلفايا كانت مركزاً زراعياً وتجارياً وصناعياً ثم مركزاً دينياً وثقافياً وفكرياً بمقياس ذلك الزمان([9]).

مدينة أربجي:

تقع مدينة أربجي شمال مدينة الحصاحيصا على الضفة الغربية للنيل الأزرق، وقد كانت أربجي الحد الفاصل بين بين الفونج والعبدلاب، وقد مرت بالمدينة أي أربجي بعثة الطبيب الرحالة الفرنسي (بونسيه) في العام (1698م) عندما كان في طريقه إلى الحبشة، ووردت ذكر المدينة كذلك في كتابات الرحالة (جيمس بروس) في رحلته من الحبشة إلى السودان في عهد الملك اسماعيل ملك الفونج ([10]).

تأسست مدينة أربجي على يد حجازي بن معين في العام 880هـ / 1475م، وقد أصبحت أربجي عاصمة للعبدلاب بعد انتقالهم إليها من قري، وفي أربجي قابل الرحالة جيمس بروس شيخ العبدلاب، وقد تم تحطيم المدينة على يد الشيخ محمد الأمين أثناء حربه ضد سلطان سنار وذلك بغرض تفويت الفرصة على ملك سنار ومنعه من تولية أخيه في المشيخة بدلا منه (... وهجم الشيخ محمد الأمين على مدينة أربجي فأهلك مقاتليها وما بقى تفرق بالجهات وتركها قاعا صفصفا. وهي كانت أحسن مدن الجزيرة ذات تجارة وعمارة ومبانٍ أنيقة ومدارس علم وقرآن وأهلها ذوو رفاهية وتفنن في الأطعمة، ومن وقتها خربت ...)([11]).

هناك اختلاف حول تاريخ نشأة المدينة وقد جاء في (طبقات ود ضيف الله) أن حجازي بن معين هو الذي قام ببناء أربجي والمسجد القائم فيها([12]).

بعد وصول مجموعات من التجار العرب إلى سواكن توغلوا إلى داخل العمق السوداني بغرض جلب البضائع وبيع ما لديهم من سلع وقد أسهم التجار العرب في تأسيس مدينة أربجي في العام (879هـ/1474م) التي تقع على الشاطئ الغربي للنيل الأزرق في وسط السودان، وبعد قيام مملكة سنار حافظت أربجي على مركزها التجاري كما ارتبطت مع سواكن بصلات تجارية ([13]).

كما أن أربجي كانت تمثل الحد الشمالي لحكم الفونج وذلك بعد الإتفاق الذي وقع بينهم والعبدلاب، ويمكن القول إن حكم الفونج انحصر بوصفه حكماً مباشراً بين أربجي وسنار ولأهمية المدينة الاستراتيجية والاقتصادية والجغرافية أصبحت الحد الفاصل بين مناطق نفوذ الفونج والعبدلاب ([14]).

تعتبر مدينة أربجي أهم المراكز التجارية في منطقة الجزيرة، وقد ارتبطت المدينة تجارياً مع كل من سنار والحلفايا وأصبحت حلقت الوصل بينهما، كما أن القوافل التجارية تمر بها نحو الشمال والجنوب([15]).

اهتم العبدلاب بمدينة أربجي واتخذوها مركزاً ادارياً يهتم بالجزء الجنوبي من مناطق نفوذهم، كما اهتم بها الفونج أيضا وذلك لموقعها الاستراتيجي، حيث يمكن من خلالها مراقبة قبيلة الشكرية والعبدلاب من قبل الفونج ،وتعد من المدن المهمة في منطقة الجزيرة ظهرت بها المباني الجميلة وكانت مركزاً تجارياً أسهم في ربط سنار بالمدن التجارية الأخرى ([16]).

مدينة سنار:

تعد سنار من الأسواق المهمة في الدولة السنارية، أسسها الفونج في العام (910هـ)، وقد ظلت عاصمة للسلطنة منذ تأسيسها في العام (1504م) وحتى سقوطها في العام (1821م)، اشتهرت سنار بتجارة الرقيق والذهب والعاج وسن الفيل كما ظلت ترسل قوافلها التجارية بانتظام إلى كل من الحبشة ومصر وسواكن ([17]).

يمكن القول بأن الموقع التجاري لسنار شجع عمارة دنقس لكي يتخذها عاصمة للمملكة وموقع سنار نجده يقع بالقرب من منبع قوة عمارة في الجنوب حيث جند الفونج من أبناء (جانجر). وسنار تتوسط المنطقة الحيوية الزراعية في حوض النيل الازرق. كما أن هناك مزايا استراتيجية لسنار بوصفها عاصمةً تتلخص في قيام الموقع على الضفة الغربية لنيل الأزرق مما يسهل معه الدفاع عن المدينة ضد أي هجوم خارجي مصدرة الجنوب. فاذا كان الاعتداء من الشرق فان انهار الدندر والرهد والنيل الأزرق يشكلون مانع طبيعي يعيق الوصول الى العاصمة من تلك الجهات ([18]).

كما تم وصف سنار في العام (1701م) بواسطة الرحالة أنها تعد من المدن المزدهرة في أفريقيا كما ان القوافل الجارية تصل إليها من مصر ودنقلا وبلاد النوبة وسواكن والهند عبر الأحمر والحبشة، كما ضمت مجموعة من الأجانب من مصر والحبشة وليبيا وأرمينيا واليونان ويوغسلافيا وايطاليا وفرنسا والمانيا والبرتغال، وقد أطلق السكان على هؤلاء المجموعات اسم (الخواجات)([19]).

كان للسلطان وكلاء في كل من مصر والحجاز وأثيوبيا مهمتهم استقطاب التجار الأجانب وأصحاب الحرف ورجال الدين الذين يمكن أن تستفيد منهم الدولة السنارية، وبعد وصول هذه المجموعات إلى سنار يخصص لهم مرافقين يشرفون على شؤونهم والتجار منهم ينالون إعفاء من الضرائب ([20]).

وبالإضافة لما سبق من وصف سنار بالثراء المادي والغنى فقد وفد اليها التجار من مصر والحجاز والهند عبر نهر النيل والبحر الأحمر عبر سواكن، ووصل إليها التمر من دنقلا والذهب والحديد من كردفان، ومن فازوغلي الذهب والعسل والجلود والسياط وريش النعام والسمسم، ومن رأس الفيل الذهب والخيول والبن والزباد والعسل والعاج وغيرها من حلى النساء ([21]).

(الجزء الأول)

(الجزء الثاني)

(الجزء الرابع)


[1])) جون لويس بوركهارت، مصدر سابق، ص 234.

[2])) جعفر حامد بشير، مرجع سابق، ص 125.

[3])) ضرار صالح ضرار، تاريخ سواكن والبحر الأحمر، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، 1981م، ص 78.

[4])) عون الشريف قاسم، حلفاية الملوك، التاريخ والبشر، دار جامعة أم درمان الاسلامية للطباعة والنشر، الخرطوم، 1988م، ص23.

[5])) الان مور هيد، مرجع سابق ص 68.

[6])) مكي شبيكة، السودان عبر القرون، مرجع سابق، ص 75.

[7])) جعفر حامد البشير، مرجع سابق، ص 121-122.

[8])) صلاح محى الدين، وقفات في تاريخ السودان، دار ومكتبة الهلال، القاهرة، ط3، 1995م، ص78.

[9])) تاج السر عثمان الحاج، مرجع سابق، ص 102.

[10])) صلاح عمر الصادق، الحضارات السودانية القديمة، الناشر، مكتبة الشريف الاكاديمية، الخرطوم، 2007م، ص 134.

[11])) أحمد  أحمد سيد أحمد، تاريخ مدينة الخرطوم، تحت الحكم المصري،(1820-1885م)، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000م، ص 36-38.

[12])) أحمد بن الحاج أبو على، كاتب الشونة، مخطوطة كاتب الشونة في تاريخ السلطنة السنارية والادارة المصرية، (تحقيق) الشاطر بصيلي عبد الجليل، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، 2009م، ص 26.

[13])) عبدالرحمن حسب الله الحاج، العلاقات بين بلاد العرب وشرق السودان، (911هـ/1505م)، المطبعة العسكرية، أم درمان، 2005م.، ص 79.

[14])) يوسف فضل حسن، مقدمة في تاريخ الممالك الاسلامية في السودان الشرقي، (1450-1821م)، ط4، سوداتك، 2004م، ص75.

[15])) قيصر موسى الزين، فترة انتشار الاسلام والسلطنات (641-1821م)، مطبعة الحرم للمنتجات الورقية، أم درمان، 1998م ص 56.

[16])) تاج السر عثمان الحاج، مرجع سابق، ص100-101.

[17])) أبو البشر عبدالرحمن يوسف، العلاقات التجارية بين دارفور والعالم الخارجي، (1640-1874م)، شركة مطابع السودان للعملة، الخرطوم، 2016م، ص 151.

([18]) الشاطر بصيلي عبد الجليل، من معالم تاريخ سودان وادي النيل من القرن العاشر الى القرن التاسع عشر الميلادي، مكتبة الشريف الاكاديمية، الخرطوم، 2009م، ص 33.

[19])) عمر عدلان المك حسن، سلطنة الفونج، شركة التربية للطباعة والنشر، سنجة، 2014م، 40.

[20])) المرجع نفسه، ص 41.

[21])) نعوم شقير، جغرافية وتاريخ السودان، دار عزة للطباعة والنشر والتوزيع، الخرطوم، 2007م، ص 415.

التعليقات (0)